التغيير الحقيقي بين المهرجانات

مهند الحاج علي

الإثنين 2017/03/20

كان يوم أمس مثالياً للراغبين بتصوير فيلم وثائقي عن السياسة اللبنانية. مشهدان جسّدا واقعنا الكامل في يوم واحد. في الأول، زعيم تقليدي لبناني يخلع كوفية فلسطينية ويضعها على رقبة ابنه، ليعلنه وريثاً سياسياً لـ”بيته“، وهي مفردة تشتمل على القصور وأثاثها التاريخي والعقارات والمؤسسات المالية، إلى جانب طبعاً كتلة وزارية ونيابية وطائفة من الناخبين والأنصار والمقاتلين ورجال الأعمال والدين. وانتقال الزعامة في لبنان طقس عائلي بحضور القيمين على بعض الطوائف أو ممثلين عنهم، وآلاف الأتباع. هذه هي صورة السُلطة.

على بعد كيلومترات عديدة، كانت هناك صورة أخرى لآلاف يتظاهرون ضد رزمة ضرائب جديدة لزيادة مدخول الدولة، وتسديد ارتفاع في رواتب موظفي القطاع العام. بين جماهير المتظاهرين، كتلة مستقلة تحلم بالتغيير، بدولة تُنتخب حكومتها ديموقراطياً وفيها مؤسسات فاعلة وقضاء عادل وزواج مدني واقتصاد ينمو. هذه صورة ”المعارضة“.

الصورتان تُجسّدان واقعنا السياسي منذ عشرات السنوات. سُلطة ناجحة في إدامة نفوذها العابر للأجيال، ومعارضة فاشلة ومشتتة تُنتج إحباطاً هو أيضاً عابر للأجيال. 

والسبب أن في صفوف هذه المعارضة، بذور التشتت والفشل، أولها وجود ”الممانعين“، أي من يُحدد أولويته ”تحرير فلسطين“، وهو شعار أسس لأبرز الديكتاتوريات وخرّج دفعات عابرة للأجيال من الورثة والانتهازيين السياسيين، وما زال. ورغم تقلّص معظم أحزابهم العلمانية، لا يزال الممانعون يُمثلون الجماعة الوحيدة في هذه المعارضة، ويزرعونها بشعاراتهم الفارغة في قلب النزاع الطائفي، بما يُحول أي تجمع كتحرك يوم أمس إلى مهرجان يمتص النقمة الشعبية، كي تعود الأمور لسابق عهدها. 

حتى في حال عجز أو تغيب الممانعون عن أداء مهمتهم الأبدية، عدم المتابعة والمثابرة يحيل هذه الأحداث مهرجاناً. هي ”همروجة“ تنطفئ بعد حين، ويعود كل من المشاركين إلى حياته غير الطبيعية. 

وهذه المتابعة أساسية في تحقيق أي هدف مع هذه السُلطة المتجذرة والعابرة للأجيال، ولهذا لم يتحقق إلى اليوم أي مطلب بفعل هذه التجمعات أو التحركات. لماذا مثلاً العجز عن تشكيل لجنة لمحاورة السُلطة بعد دعوتي رئيسي الوزراء اللبناني السابق تمام سلام، إبان حراك النفايات، والحالي سعد الحريري مع تظاهرة الأمس؟ مثل هذه اللجنة قادرة على الظهور في الاعلام وشرح وجهات نظرنا حيال السُلطة، وإحراجها بمطالب محقة لن يقدر من يفشل منذ 3عقود على تحقيقها.

والواقع أن هذا الفشل يطال في نتائجه عدداً غير قليل من اللبنانيين، وهم كتلة المستقلين المُغيبين دوماً عن أي تمثيل سياسي أو نيابي أو حتى إعلامي. وهذه كتلة أظهرت الانتخابات البلدية الأخيرة أنها تتأرجح في الدوائر الانتخابية بين 20 إلى 40 في المئة من اجمالي عدد الناخبين. 

أهل السُلطة، أي زعماء الطوائف وميليشياتها، وحواشيهم، يُهيمنون على الاعلام وكافة المؤسسات. لمَ لا يقتنص أي حراك فُرصة متوافرة لتشكيل لجنة خبراء يقترحون أفكاراً لمكافحة الفساد التي يعد بها رئيسا الجمهورية والحكومة؟ لمَ لا يقترحون مثلاً فتح السجلات العقارية والتجارية بالكامل أمام الصحافيين لنرى كم إكتنز أهل السلطة وأقاربهم من مال عام، ونقترح اعادته للخزينة لتمويل السلسلة؟ ما رأيكم مثلاً بتحقيق مستقل أو دولي في استغلال أهل السلطة الأملاك البحرية؟ أو مثلاً، تشكيل لجنة تحقيق مستقلة تنظر في أداء وزارة المالية.

الحراك بشكله الحالي سيفشل دائماً لأنه يتكرر في الصورة العشوائية ذاتها، فاتحاً الباب دوماً لممانع من هنا وطائفي مُستزلم من هناك لاستغلاله. 

في جعبة بعض الجمعيات مثل المفكرة القانونية وكفى وغيرهما، تجارب ناجحة بإمكان شباب الحراك الافادة منها، سيما المثابرة واحراج السلطة في مجالات مختصة. وهذا مجهود مُركز بشقيه التوعوي والنضالي، تطلب الكثير من العمل والوقت، وهما استثماران لا يُبدي مشاركون كثر في تظاهرات الأمس وما سبقها من حراك، استعداداً لهما. لكن الجمعيات مهما كبر نضالها تعجز لأن تأتي لنا بتغيير شامل نحتاجه، بما فيه حكومة غير فاسدة أو فريق معني بالشأن العام، أو بقضاء عادل ومستقل، وبدولة تحتكر السلاح. 

هذا يتطلب حراكاً ثقافياً نشطاً في المقام الأول يُحدد الأسس المشتركة، وثم ينزل الشارع ويُشارك في الانتخابات ويتحدى السلطة كتلة واحدة في الاعلام والجامعات والمؤسسات. 

حتى يحدث ذلك، يبقى كل مجهود، حراكاً عبثياً يمتص النقمة الشعبية، قبل أن نعود جميعاً الى النقطة صفر.

©جميع الحقوق محفوظة لموقع المدن 2024