داعش يعود إلى أصله

عمر قدور

الثلاثاء 2015/11/17

 

قد ترتسم علامات استفهام كبيرة حول قدرة داعش الإرهابية. فأن يتبنى التنظيم المسؤولية عن تفجير الطائرة الروسية المدنية في مصر، ثم عن تفجيري الضاحية الجنوبية وتفجيرات باريس، فهذه إمكانية لا يجوز الاستهانة بها، ولعل أهم ما فيها القدرة الاستخباراتية العالية التي مكنته من اختراق إجراءات الأمن في الأماكن المستهدفة. أيضاً الأسئلة عن توقيت العمليات مشروعة، بخاصة مع ربطها بعملية فيينا حول سوريا، وهنا ليس غريباً أن تشير أصابع الاتهام إلى نظام الأسد وحلفائه كمستفيدين من عمليات داعش، ويعيد طرح الأسئلة عن الخدمات المتبادلة بين الطرفين.

يصادف أن يصرّح وزير الخارجية الأميركي بأن أيام داعش باتت معدودة، التصريح الذي أخذه الكثيرون على محمل السخرية بالمقارنة مع تصريحات مماثلة عن مصير الأسد. لكن تصريح كيري هذه المرة لا ينطلق من فراغ، فقوات البيشمركة في العراق حرّرت سنجار، و"القوات الديمقراطية" في شمال شرق سوريا مدعومة بالتحالف الدولي بدأت معركتها ضد داعش. الأهم أن مفاوضات فيينا أعطت الأولوية لمحاربة "الإرهاب"، وأن تجتمع قوى استثمر بعضها في الإرهاب على محاربته فذلك يؤذن بفتح صفحة جديدة من التعاطي الدولي والإقليمي مع داعش، أي أن التنظيم مهدد جدياً بعدم الاستفادة من التناقضات الدولية والإقليمية بعد الآن.

لقد انتهت "نزهة" الخلافة في العراق والشام. نهايتها كانت أمراً محتوماً في الأصل. فترة السماح الدولي هي التي انتهت، وصار لزاماً على التنظيم العودة إلى أصله، إلى العمل الجهادي الحركي المعروف من أيام التنظيم الأم "القاعدة". إن إحدى أهم الرسائل التي توجهها العمليات الإرهابية الحالية تتجلى في أن بقاء دولة الخلافة مصلحة للدول التي سيطالها الإرهاب في عقر دارها، وأن القضاء على هذا التجمع المنظم من مقاتلي داعش سيؤدي إلى انتشارهم في العالم، فضلاً عن الخلايا الموجودة في العديد من الدول. وبدل القتال في سوريا والعراق وقتل أبناء البلدين ستضرب موجات من الإرهاب أنحاء عديدة من العالم.

في الحرب على الإرهاب، ثمة جدل غربي عمره حوالى عقدين: هناك تيار يطالب باتخاذ إجراءات قصوى في الغرب نفسه درءاً له، وهناك تيار آخر يطالب بمحاربته خارج الحدود استباقياً. الجدل نفسه موجود ضمن التنظيمات الجهادية: تيار يطالب بمحاربة "الكفار والصليبيين" في أرضهم، وتيار آخر ينظّر لاستدراج قوات الغرب إلى خارج أراضيه وإيقاع الهزيمة بها. إدارة أوباما تبنت خياراً ثالثاً لم يثبت نجاحه، فهي من جهة أبدت غبطتها بتحول سوريا إلى ساحة لصراع المتطرفين واستقطابهم، ولما اضطرت عمدت إلى إنشاء تحالف "جوي" يجنبها التورط بخسائر بشرية. الخيار الأميركي بدا مرضياً لداعش، بما أنه لا يشكل تهديداً جدياً للتنظيم، لكن الانتقال إلى مرحلة أخرى، وبدء استهداف التنظيم براً بواسطة ما يسميهم الأخير بالصحوات، ينقل المعركة خارج إطارها الجغرافي المحدود.

حداثة عهد داعش النسبية لا تقلل من قدرته على تنفيذ عمليات خارجية كبرى، وهنا ينبغي الانتباه إلى الحراك الداخلي ضمن تنظيم القاعدة، حيث تعرض التنظيم إلى نكسة كبرى بمقتل زعيمه أسامة بن لادن، فضلاً عن تجفيف قدراته المالية والحركية. خطاب القاعدة نفسه لم يعد جذاباً للخلايا والتنظيمات المتطرفة حول العالم، ولا يملك جاذبية إعلان الخلافة من قبل داعش، يزيد عليه بالطبع أن الإعلان مشفوع بمقدرات مالية وعسكرية ضخمة. من الصين شرقاً حتى أوروبا مروراً في أفريقيا، استطاع داعش استقطاب خلايا وتنظيمات كانت تتبع القاعدة، وتمتلك خبرة حركية لا يُستهان بها. هذا لا يعفي التنظيم من علاقات استخباراتية مع العديد من الأجهزة الإقليمية أو الدولية، وفي مقدمها نظام الأسد، إنما يضعها في إطار تبادل المنافع بين تنظيمين يدعي كلّ منهما أنه دولة، وبالتأكيد لا يعني وجود تعاون مستدام بين الطرفين.

العمليات الإرهابية الأخيرة تلبي مصلحة بشار مثلما هي مصلحة أولى لداعش، فأية تسوية دولية حقيقية للملف السوري سيتضرر منها الطرفان. الوضع الأمثل لبشار الأسد ولداعش هو الوضع المستمر منذ حوالى ثلاث سنوات، طالما أنه يحافظ على وجودهما، أو على وجود كل منهما المرتبط بوجود الآخر. من دون تعليق أدنى وهم على عملية فيينا في ما يخص حقوق السوريين، هذه العملية لا تصب في مصلحة بشار إلا إذا تواطأت القوى المنخرطة فيها على تسليمه سوريا على النحو الذي كان قبل الثورة، وهو أمر فوق استطاعة المجتمعين. وإذا كان مخرج داعش من العملية العودة إلى أصله كتنظيم بلا دولة، فنظام بشار لا يمتلك فرصة العودة إلى ما كان عليه، ولن يمتلك طويلاً فرصة مساعدة الإرهاب واستغلاله للبقاء. المسألة هنا لا تتعلق بنوايا غربية طيبة، وإنما تتعلق أساساً بمعلومات تملكها استخبارات هذه الدول، ويُعبّر عنها بتصريحات دبلوماسية تربط بين بشار والإرهاب.

مع الأسف، وقف العالم متفرجاً طوال سنوات على وحش "النظام" وعلى وحش التنظيم، وكانت الفكرة السائدة هي أنه لا ضير من وجودهما طالما بقي أذاهما محصوراً في رقعة جغرافية محدودة. الآن، سيخطئ العالم إذا ظن أن الوحشين سيستسلمان بسهولة لمصير يقرره الآخرون، فلا من عادة التنظيمات الحركية الجهادية إعلان الهزيمة، ولا من عادة أنظمة الاستبداد إعلانها. مع وجود تصريحات موثقة لأصحابها لا يسعنا أن نضيف المزيد، فبشار وداعش أنذرا العالم بمزيد من الإرهاب طوال السنوات، وكلما اقترب العالم من الاقتناع بالقضاء عليهما سيوضع الإنذاران معاً قيد التنفيذ. 

©جميع الحقوق محفوظة لموقع المدن 2024