الدكتور الكبير

شادي لويس

الإثنين 2018/03/12
غطى الحوار الذي أجرته مؤخراً جريدة "المصري اليوم"، مع الرئيس السابق للجمعية العالمية للطب النفسي، الدكتور أحمد عكاشة، موضوعات شتى، من الحب والطفولة إلى الانتخابات والسياسة الدولية. إلا أن عكاشة، لم يُدلِ بدلوه في ذلك الطيف الواسع من الموضوعات بوصفه مواطناً مصرياً، أو من منطلق منصبه السياسي كمستشار لرئيس الجمهورية، بل بسلطة الطبيب النفسي، أو "الدكتور الكبير" كما أطلقت عليه الجريدة، مضيفة إليه لقب "المفكر" أيضاً.

وبالنظر إلى السيرة المهنية للرجل، ومناصبه العديدة في الهيئات العلمية الدولية والإقليمية، وكذا الأوسمة والجوائز المحلية والدولية وإصداراته العلمية، فإنه بلا شك "دكتور كبير". إلا أن تلك السلطة التي يتحدث بها عكاشة عن كل شيء وأي شيء، ليست مؤسسة فقط على سلطة العِلم في المطلق، أي الادعاء بحيادية المعرفة ونزاهتها. بل وبالأخص تؤسس على سلطة مبحث بعينه، هو الأكثر تغولاً في ادعاءاته. فإن كان الطب عامة يفرض سلطة على الأجساد، هي على تماس مع اليومي والأخلاقي والاجتماعي ضمنياً، فإن الطب النفسي دون غيره، لا يحتاج تلك الضمنية. فبشكل مباشر، يفرض الطب النفسي ولايته على كل تفصيل يتعلق بالفردي والاجتماعي، بدءاً من الطفولة وصولاً إلى الجنائي، والجدير بالذكر هنا أن الدكتور عكاشة تولى مناصب أكاديمية وتنفيذية في حقلي الطفولة والطب الجنائي تحديداً.

يمكن تلمس آثار تلك السلطة المعرفية، والاتفاق الضمني عليها، في أسئلة الحوار، أكثر من إجابات عكاشة. فالدكتور الكبير لا يخبرنا جديداً لا نعرفه، وبالأخص موقفه من السياسة في مصر، إلا أن صياغة الأسئلة هي التي تشي بالكثير. فعلاقة الشرطة بالمواطنين، أمر لا يتعلق بالقانون أو ممارسات السلطة، بل بـ"أزمة نفسية". أما ثورة يناير المسؤولة عن تلك الأزمة، فهي حدث يتعلق "بتغير أخلاق المصريين"، لا بطبيعة الحكم وأداء المؤسسات وتوزيع الموارد وغيرها. وكذلك فإن سوء الأوضاع الاقتصادية، لا يتم تحليله في إطار العدالة الاجتماعية مثلاً، بل في إطار "اكتئاب الشعب المصري". أما الحب، وهو من شؤون النفس بالطبع، فعكاشة يبدو الشخص المناسب لسؤاله عن مراحله. وفي شأن الذكاء، وهو من أمور العقل، فالطبيب النفسي هو الأكثر معرفة به قطعاً. لذا، تسأل الجريدة ضيفها عن حقيقة إن كان الطفل المصري أذكى طفل في العالم حقاً، وكيف للأسرة أن تكتشف إن كان طفلها عبقرياً. وهكذا، فإن كانت الأخلاق، والحب والذكاء والمزاج العام والأوضاع الاقتصادية والثورة والعلاقة بأجهزة الأمن، كلها مسائل يمكن تسكينها في محض معضلات نفسية، فإن خيوط حلها تبدو في يد الطب النفسي.. والدكتور الكبير.

لطالما كانت واحدة من أكثر الانتقادات التي وجهت للعلاجات النفسية بأنواعها، اختزال المشاكل ذات الطبيعة الاجتماعية والسياسية في مجرد مشاكل تتعلق بنفس الفرد، وبالتالي إلقاء اللوم عليه أو على عيب داخله، لا على الأنظمة الأوسع. وكما أن تلك الانتقادات، وصمت العلاجات النفسية بأنها مجرد محاولة لإجبار الأفراد على الخضوع لأنظمة اجتماعية غير عادلة والتعايش معها، فإن إجابات الدكتور عكاشة تؤكد لنا هذا كله. فبحسبه، الشعب المصري لا يعاني الاكتئاب بسبب سوء الأوضاع الاقتصادية، بل بسبب ارتفاع سقف طموحاته. و"انخفاض الروح المعنوية" للمصريين، هو خطؤهم، بسبب مبالغتهم في الآمال، وليس بسبب أي شيء آخر. وبالتالي، فالعلاج يكمن في أن يعود المصريون إلى صوابهم، للتعايش مع الوضع القائم. أما الأخلاق، فهي لم تتغير مع الثورة، بحسب عكاشة، بل إن "يناير" أظهرت أسوأ ما في البشر، و"البلطجي وجد ضالته في غياب المحاسبة". ويعود عكاشة لطمأنتنا، بأن بذرة الشر الكامنة في الثورة، أي غياب الثواب والعقاب، والانفلات الأخلاقي المرتبط بها، قد تم انتزاعها بعد تولي السيسي زمام الأمور. ففي النهاية، كل مشكلة اجتماعية لها أساس أخلاقي فردي، ولا يمكن ضبطها سوى بالقمع من أعلى.

وأكثر ما أثار الغضب في حوار عكاشة، كان وصفه لحقوق الإنسان بالرفاهية، فهو يعيد حكمة معادة بأنه لا مكان للحقوق في زمن الخطر والحرب على الإرهاب. بل ويضيف أن الرافض للإجراءات الاستثنائية وتعطيل القانون الطبيعي، هو خائن. لا يتوقف عكاشة هنا، فحتى في وقت السِّلم، حين "نسلك طريق التقدم"، فإن "رفاهية" حقوق الإنسان تظل غير مستساغة، إذ "لا يمكن لأحد إيقاف حركتنا ونهضتنا".

يملك الطبيب النفسي سلطة شبه مطلقة لا يملكها غيره، في نطاق تعيين حالة الاستثناء وتعطيل القانون الطبيعي. لا يخص الأمر سؤال الحقوق، ولا يقع في نطاق المفاوضة. فالطبيب النفسي، وعبر سلطة المعرفة العلمية، يمكنه إصدار الأمر باحتجاز الأفراد، وإرغامهم على العلاج، وتجريدهم من حرياتهم وقدرتهم على التصرف في ممتلكاتهم وسلطتهم على أجسادهم، وتعطيل غيرها من الحقوق الطبيعية، بغية مصلحتهم الشخصية والمصلحة العامة. يقوم عكاشة بتعميم دوره كطبيب نفسي، من الفردي إلى العام. فالرئيس، "طبيب الفلاسفة"، ومعه مستشاروه، على شاكلة "الدكتور الكبير"، هم الأقدر على تحديد حالة الاستثناء، وإجراءات تعطيل القانون الطبيعي، في سبيل المصلحة العامة.

لكن، وسط حديثه عن مؤامرات قطر وتركيا على مصر، ومعهم "جماعة الإخوان الأشرار"، ورعب إسرائيل من التقدم المصري، والتوحد مع الإنترنت الذي أفسد أخلاق الشباب، لا يتركنا الدكتور عكاشة بلا أمل. فبعد حديثه عن مراحل الحب الأربعين، لا يحرمنا من واحدة من لمساته الأدبية، خاتماً حواره بالقول: "الحب هو التعويض العادل عن كل حماقات العالم، لا جرائمه". وبالطبع، ليس علينا أن نسعى إلى تغيير العالم أو تعديل أوضاعه، ولا أن نأمل في محاسبة مجرميه أو تحقيق العدالة فيه، فالخلاص فردي دائماً، ويكمن في نفس الفرد، لا خارجها. 
©جميع الحقوق محفوظة لموقع المدن 2024