البرادعي مُحقٌّ دائماً

شادي لويس

الثلاثاء 2017/01/10
كنا في النصف الأول من يونيو/حزيران 2010، عندما أعلنت "الجمعية المصرية للتغيير" في بريطانيا، عن لقاء الدكتور البرادعي بأبناء الجالية المصرية في لندن. لم أكن شديد الحماس للحضور. فالرجل الذي بدا لي حسن النوايا، لم يُتوقع أن يأتي بجديد في لقائه اللندني، وإعادة الاستماع إلى مقولاته عن الديموقراطية والمساواة والحكم الرشيد، بدت لي حينها مدعاةً للأحباط أكثر من أي شيء آخر، خصوصاً بعدما شنت وسائل الإعلام المصرية حملة منظمة وشرسة لتشويه الرجل، من أول إتهامه بتسهيل غزو العراق، والعمالة لإسرائيل، وصولاً إلى نشر صور خاصة بأفراد أسرته.

انتهى الأمر بذهابي إلى اللقاء برفقه صديقة مصرية، وزوجها الإيطالي، الذي كان أكثرنا حماسة للحضور. بدأ اللقاء بكلمة افتتاحية للدكتور البرادعي، لم تتجاوز العشر دقائق. وإن كانت الكلمة القصيرة قد اكتفت بالإشارة للكليّات، من دون الدخول في تفاصيل، كما يحبذ صاحبها عادة، الا أن البرادعي كان من الذكاء الكافي ليحكي عن أمنيته في يوم يرى فيه إمراة قبطية تتولى منصب رئاسة الجمهورية، منتزعاً حماستي رغماً عني، وعاصفة من التصفيق من الحضور الذي لم يصعُب تبيّن أن نسبة معتبرة منهم من النساء والأقباط ومن المدافعين عن قضايا المساواة والمواطنة بالضرورة. لكن، مع البدء في تلقي اسئلة الجمهور الموجهة للضيف الكبير، تدهورت الأمور بشكل مأساوي، إلى حد أسوء بكثير مما تصورت. ففشِل منظمو اللقاء في الالتزام بنظام واضح لتلقي الأسئلة، ثم أصرّ بعض الحضور على الحديث من دون الإسترشاد بالقواعد التي غيّرها مدير اللقاء أكثر من مرة، واتهموا المنظمين بالإنتقائية في اختيار السائلين، ما تطور إلى تراشق لفظي، وتهديد بالعنف البدني واستدعاء الأمن للتدخل، أنتقلت من المنصة إلي صفوف الحضور أنفسهم، الذين بدأوا بالفعل بدفع بعضهم بعضا، والتهديد بتبادل اللكمات. ومع تحول اللقاء إلى حلقات متتابعة، من الصراخ الهستيري، تخللتها فواصل قصيرة من محاولات التهدئة، وجدت نفسى مضطراً لمغادرة القاعة أكثر من مرة، من فرط التوتر والإحراج.

كان الأمر الأكثر مدعاة للشفقة في اللقاء، هو نظرات الشرود في عيني الدكتور البرادعي، الذي ربما صدمه ما حدث، مع تبينه عدم قدرته على السيطرة على مجريات اللقاء، أو سلوكيات منظّميه المتضاربه والمخجلة، وهو كان مجرد ضيف عليهم. اكتفى البرادعي بالتهديد بالانسحاب من اللقاء أكثر من مرة، فذلك كان الأمر الوحيد الذي يستطيع التلويح به لفرض بعض الهدوء لدقائق.

لم تؤكد مجريات الأمسية على هشاشة الجمعية المصرية للتغيير فحسب، علماً أن أعضاءها اللندنيين عينوا أنفسهم بأنفسهم في مناصبهم في فرع الجمعية في بريطانيا، بل أشارت إلى افتقاد المعارضة المصرية إجمالاً، ووجها الأكثر تأثيرا حينها، إلى الحد الأدنى من القدرات المؤسسية والتنظيمية الكافية لمواجهة نظام مبارك والقيام بدور البديل له، إضافة إلى إدارة لقاء سياسي في عاصمة أوروبية، يحضره بضع مئات، جميعهم من معارضي النظام.

في نهاية الأمسية، اعتذرتُ للصديق الإيطالي، معرباً عن خجلي من مجريات الليلة، مؤكداً له على يقيني بأن الرجل -حسن النوايا- غير مؤهل للعب دور مؤثر في السياسة المصرية في المدى المنظور. لكن الصديق الإيطالي، وهو المتخصص في دراسة فض النزاعات، اندهش من مبررات اعتذاري، فاللقاء جرى كما كان متوقعاً، مضيفاً بأن آخر لقاء حزبي حضره في إيطاليا، انتهى بأن حمل ثلاثة من أعضاء الحزب عضواً آخر وليلقوا به من النافذة. ومع أن الرواية المضحكة كانت كفيلة بتخفيف شعوري غير المبرر بالخجل، إلا أني احتفظتُ بقناعتي بأن سلوكيات المنظّمين والحضور لم تكن مبررة ولا مفهومة على الإطلاق.

بعد شهور من تلك الليلة، اتضح أني كنت مخطئاً تماماً. فالرجل عاد إلى القاهرة، ليضحي بالفعل زعيماً جاهزاً للثورة. أما مجريات الأحداث اللاحقة، فذكّرتني بحديث الصديق الإيطالي. فالسياسة ليست بالضرورة ساحة للحوار وتبادل الأفكار والحجج وتفنيدها، بل هي قطعاً ساحة للصراع، الذي يتحول أحياناً إلى عنف مادي مباشر، خصوصاً في لحظات التغيير الحاد، وإعادة تشكيل النظام السياسي ولاعبيه الرئيسيين.

بعد أكثر من ستة أعوام على تلك الأمسية، وبعدما انسحب البرادعي مرتين من الساحة السياسية المصرية، وفي أكثر لحظاتها حرجاً ومصيرية، وللأسف في كل مرة، ببيان مقتضب وصمت طويل، وبعدما اكتشفنا مرة بعد أخرى أننا كنا على خطأ في تصوراتنا عن التغيير السياسي في مصر، وإمكاناته، عاد البرادعي مرة أخرى، عبر شاشة "التلفزيون العربي"، ليخبرنا بأن صمته كان مدفوعاً بأمنيته بأن يكون على خطأ، لكنه للأسف كان محقاً، كعادته دائماً. يبرر البرادعي اكتفاءه بالتغريد عبر "تويتر"، بأن الأفكار أقوى وأهم من الأفعال، معيداً علينا كلّياته حسنة النية عن الديموقراطية والمواطنة، وإن كانت أثقل على القلب اليوم، مما كانت عليه قبل ستة أعوام.

ظل البرادعي على شاشة "العربي"، كما كان في لقائه اللندني، بلا دعم مؤسسي أو تنظيمي، ولا سلطة له سوى قدرته على الإعلان عن عودته إلى الشأن العام حين يروق له، أو التهديد بالانسحاب منه. وظل بلا تصورات، ولو مختزلة، عن إدارة صراعات معقدة، وعلى أكثر من جبهة، بما يتطلبه التورط في الشأن العام المصري المأزوم، باستثناء شعارات طوباوية عن العدالة وقبول الآخر. ومع أن توقيت الإعلان عن رغبة البرادعي في العودة إلى الشأن العام، يبدو محسوباً بدقة وذكاء، إلا أن صاحبه توقف عند لحظة في الماضي، ولم يتزحزح عنها. فمصداقيته لدى أكثر مؤيديه إخلاصاً، تداعت، بعدما خذلهم مرة بعد مرة، ومن دون حتى تكبّد عناء تبرير خذلانهم ولو بكلمات قليلة. وفيما يبدو أن مؤيديه السابقين، من "أجيال الثورة"، غيّروا قناعاتهم مرات عديدة، بفعل صدمات الأعوام القليلة الماضية، فإن البرادعي ما زال كما هو. مقتنع بأن ترداده لشعارات الديموقراطية والحكم الرشيد كفيلة بإحداث التغيير، والأهم أنه كان دائماً على صواب، حتى إن تمنى العكس. 

©جميع الحقوق محفوظة لموقع المدن 2024