الثورة الثانية أيضاً من غير ميعاد

دلال البزري

الخميس 2016/01/28

رضا يحياوي شاب تونسي من قصرين، كان عمره 23 سنة عندما اشترك مع أقرانه في تظاهرات الثورة التونسية منذ خمس سنوات. بعد تخرّجه، لم يجد العمل الذي آمن بأنه سوف يحصل عليه، بعد الثورة. الثورة خيّبت آماله، بعدما صار عمره الآن 28 سنة، ولكنها لم  تنَلْ من طاقته على التمرّد والإحتجاج. منذ أسبوعين، شارك في تظاهرة مع أبناء بلدته، تطالب بايجاد عمل للشباب المتخرجين. فجأة انتابته لحظة يأس جارف، فقرر أن يتسلق عموداً كهربائياً، ويقفز من أعاليه، ليموت. لكنه، وهو يحاول الإنتحار، صعقه التيار الكهربائي، فسقط منه صريعاً. ليرحل في اليوم التالي متأثرا بإصابته.

إنتحار رضا يحياوي استحضر محمد البوعزيزي؛ هل تذكرونه ذاك الشاب التونسي الآخر، الذي لا تبعد بلدته عن قصرين أكثر من 75 كلم، والذي أحرق نفسه إحتجاجا على حرمانه من بطاقة مزاولة عمله؟ يجب ان نتذكره، البوعزيزي، لأن انتحاره فتح أبواب ثورات عربية، قلبت الدنيا ولم تقعدها، ورست، حتى الآن، على أغرب العواقب. بدءاً من تونس، "الأنجح" من بين الثورات، مروراً بمصر التي انتقلت من "الإخوان المسلمين" إلى العسكر، وسجن أبرز شباب ثورتها، وانتهاء بسوريا، بتراجيديتها الكونية، من دون أن ننسى اليمن وليبيا والبحرين. وكلها بدأت ثوراتها محمولة على الأمل والإعتزاز، صفقت لها القنصليات وهنأ بها زعماء العالم، واشتغل بعضهم على إيجاد صلة نسَب بين عقيدته، الديموقراطية أو الإسلامية أو الليبرالية، وبين ما تنطوي عليه هذه الثورات من تطلعات وشعارات وممارسات.

من يتذكر جيدا حالة الغبْطة التي إنتابت أبناء هذه الثورات والمبتهجين بوثباتها، لابد انه يحتاج إلى الكثير من الدهشة ليلاحظ، من دون مكابرة "العارفين" و"الفاهمين"، بأن هذا الذي رست عليه الثورات لم يكن متوقعا أبدا، لا بل كان محرَّماً. الثورة التي قامت من أجل الخبز والحرية والكرامة، تحولت الى كابوس من الفوضى، من التفكك والإنهيار: بدل الحرية، وجدنا أنفسنا أمام الوحش الداعشي الذي بات العالم كله يتذرع به ليخوض على أرض فوضانا حروب الفراغات، على أنواعها. وبدل الخبز، حلّت البطالة، وانفجر اللجوء. واستبدلت الكرامة بفروض خارجية، كلها تريد القبض على مصير الثورات؛ ولا فرق هنا بين دول عظمى أو متوسطة، ولا بين دولة "ديموقراطية" وأخرى تسلطية. الجميع يعامل تلك البقع المنكوبة بثوراتها معاملة الأرض السائبة، التي بدورها تعلّمهم الحرام.

ولكن، الألعن من ذلك، هي تلك "الدروس" التي تتدفّق على الثورات، خصوصا من قبل أولئك الذين حكموا عليها بالفشل. لا تسمع ولا تقرأ كلاما عن هذه الثورات، إلا وتلحقها "الينْبغيات"، بتعبيراتها المختلفة: كان على الثورات ان تتدرج، أن تكوّن نظرية، أن تكون أطرافها موحّدة، أن يقوى وعيها بالديموقراطية، أن يتثبّت تعلقها بها، أن لا تتطيّف، أو تتسلح، أو تتشرذم...الجميع تمتلكه الحكمة العالية، عندما يكون بصدد هذا الذي حصل منذ خمسة أعوام، والغالبية من بين الحكماء هؤلاء، لهم نظرة شبه ضمنية لهذه الثورات، تتراوح بين ذبحها، ومصادرتها وإغلاق نوافذها، لأنها تسبّبت بما يكفي من الخراب.

كلا أيها الناصحون، الثورات كانت إعصاراً طبيعياً؛ جرفت المتحمسين لها إلى خارج أنفسهم، خارج يومياتهم وإذعانهم وبؤسهم. قدرتها التدميرية لم تكن من نياتها، إنما من قوتها الطبيعية، المتفلّتة من الإرادة والنظرية والحزب والقائد الكاريزماتيكي؛ وكل هؤلاء الثلاثة حاولوا ركوبها، اعتقاداً منهم بأنها سائرة على صهوة الحصان التاريخي الرابح. وهي تحمل عيوب فضيلتها، العفوية. لذلك، فان خرابها، أو بالأحرى التحولات التي أحدثتها، غير قابلة للعودة إلى الوراء، إلى زمن ما قبل حدوثها.

خمس سنوات ليست شيئاً في عمر الثورات. خصوصا الثورات العربية المعاصرة، التي، بغناها، وبغنى المجتمعات التي أحرقتها بنارها، دخلت في أكثر من عملية ثورية، تبدو الآن فظيعة؛ ولكننا، لو بسطناها على الزمن المديد، سوف نراها تمدّنا بصيرورات من الجدل والصراع. فالثورات رسّخت فكرة جوهرية، قوامها ان هناك إمكانية لخلق عالم أفضل، إن هذا العالم الأفضل ممكن. هذه الفكرة هي الأبقى من بين نتوءات الثورات. ولكن، كما اندلعت من غير ميعاد، فسوف تتكرر موجاتها أيضاً، وتتلاحق، من غير ميعاد محدّد.

©جميع الحقوق محفوظة لموقع المدن 2024