أحمد شفيق وصفقة القرن

شادي لويس

الثلاثاء 2017/12/05
صفقة القرن، عودة المخابرات العامة، صراع الأجهزة الأمنية، انقلاب ناعم.. هذه بعض النظريات التي تم تداولها لتفسير أحداث الأيام القليلة الماضية في مصر. فبعد الهجوم على مسجد الروضة، شُحذت نظرية المؤامرة التي لطالما استُعين بها بعد كل هجوم إرهابي. لكن فداحة الهجوم، هذه المرة، سمحت بتأجيج الخيال التآمري إلى حده الأقصى: فالهجوم من تدبير النظام المصري، بهدف تهجير سكان سيناء قسراً، وتوطين الفلسطينيين فيها بدلاً منهم، وذلك بحسب المخطط المرسوم سلفاً: "صفقة القرن".

لم تكن تلك النظرية الوحيدة التي شغلت قطاعاً لا بأس به من المصريين. فمع انطلاق الجزء الثاني، من دراما تلفزيون الواقع، تكثفت التراجيديا مع إعلان الفريق أحمد شفيق نيّته الترشح لانتخابات الرئاسة في مصر، ولاحقاً إطلاقه استغاثة عبر الشاشات، بسبب منعه من السفر من الإمارات، قبل أن يتم ترحيله إلى القاهرة، وتصريح أسرته بعدها بأنه مختفي قسرياً. خلال كل تلك الانقلابات المفاجئة والمتسارعة للأحداث، كانت هناك عشرات النظريات المتداولة، وتم التراجع عنها بعدها بساعات، لتحل محلها نظريات معاكسة تماماً، أو لتُشذّب النظرية القديمة بحيث تناسب الموقف الجديد: فالنظام سيستخدم شفيق كواجهة للحُكم، أو أن اختفاءه ليس سوى حيله لتلميعه، الإمارات دفعت بشفيق لعدم رضاها عن السيسي.. ثم بعد عشر دقائق: الإمارات سلّمت شفيق للسيسي، فهناك صراع داخل الجيش وشفيق يمثل أحد أجنحة الصراع.. وغيرها الكثير من النظريات، والتي يتبدل معها الموقف من شفيق، مرة بوصفه بطلاً، ومرة أخرى كمتذبذب، وفي الحالات كافة كعنصر في مؤامرة شديدة التعقيد، سواء كان على عِلمٍ بها أم لا.

وبالتوازي، كان نشر ضابط مصري لم يكن معروفاً في السابق، مقطع فيديو مسجلاً يعلن فيه نيته الترشح للرئاسة، سبباً لاندلاع صِدام بين مَن وجدوا في الفيديو فرصة لانتشال البلاد من كبوتها، ومَن حذروا من الخطة المُحكمة التي ينفذها الجيش المصري -أو أحد الأجنحة داخله- من خلال هذا الفيديو. وبعد القبض على الضابط أحمد قنصوه، ومثوله أمام النيابة العسكرية، عُدلت نظريات الطرفين، لتناسب الموقف الجديد، وغالباً تبادل الطرفان موقعيهما بخصوص قنصوه، فمَن كان معه أصبح ضده، والعكس.

ومنذ بداية سبعينات القرن الماضي، احتلت الصورة موقعاً مركزياً في التنظيرات السياسية. ولم يبدُ أن هناك تعريفاً متفقاً عليه لما تعنيه الصورة بالضرورة. فهي، عند البعض، ظاهرة مرتبطة بالإنتاج الكثيف والميكانيكي للمعاني والرموز، أو تمثيل للسطح في مقابل العمق، وفي أحيان كثيرة كانت الصورة نسخاً متحايلة على الواقع أو تشويهاً له. وبشكل أكثر راديكالية، اعتبر البعض الآخر أن الصورة قد أصبحت كل شيء بالفعل، بعدما انتفى الواقع تماماً. أما الفهم الكلاسيكي والأكثر مباشرة للصورة، فيتعلق بدور وسائل الإعلام وبروباغندا الأنظمة الحاكمة، في تشكيل الوعي وتزييفه، وربما ما زال هذا التصوّر كافياً للإلمام بعموم التصورات عن الصورة ودورها السياسي.

لكن ما نواجهه في حالتنا هذه، أي دراما الواقع السياسي شديد المبالغة والعبث، مع ردود الأفعال المتقلبة تجاه أحداثها، ليس هيمنة الصورة المعتادة ومعضلتها ومراوغتها، بل ربما العكس تماماً. فما نتابعه في شاشات الأخبار، من اختطاف رؤساء حكومات دول أخرى، أو احتجاز عائلات ملكية بكاملها في فندق، ومذابح للمصلين في المساجد باسم الإسلام، واختفاء رئيس وزراء سابق قسرياً، لا تبدو معنية بالطبع بتجميل السياسة، بل بتقبيحها إلى أقصى حد. ومن فرط دراميتها، قد تتجاوز الأحداث قدرة الصورة على احتوائها أو تشويهها أكثر مما هي مشوهة. في المقابل، فإن رد فعل قطاع من الجمهور، المثقل بنظريات المؤامرة، يرفض تناول ما يحدث بوصفه واقعاً، بل مجرد صورة، تخفي شيئاً مناقضاً لها، أي الحقيقة. لذا، يبدو الجميع منهمكاً في التفتيش خلف ما يحدث، وخلف الصورة، والظاهر منها، لنصل في النهاية إلى تفسيرات "مُحكمة" تربط بين فيديو قنصوه، وتراجع شفيق عن الترشح، مع صفقة القرن، وبحث الاعتراف بالقدس عاصمة لإسرائيل، وكذلك علاقة سد النهضة بمقتل علي عبد الله صالح، إضافة إلى إنتاج أول تليفون محمول مصري.

وفي تلك الدائرة المغلقة من عبثية الحدث السياسي وغرائبية تفاسيره، وفي ظل غياب كامل للشفافية، يبدو الأمر مُجهداً للجميع، لا يقود إلا إلى لامبالاة كاملة أمام ما يحدث، أو إلى رفض تصديق أي شيء وكل شيء. ولا مخرج من هذا كله، على ما يبدو، سوى بأخذ خطوة للوراء، وفك الارتباط مع سؤال الصورة والأصل، عبر الإقرار بأن ما يحدث أمامنا هو محض عبث جنوني، لا جدوى من محاولة عقلنته، أو البحث عن شيء ما خلفه.

©جميع الحقوق محفوظة لموقع المدن 2024