في جواز الترحم على فدوى

إياد الجعفري

الأحد 2017/08/20

وسط ظاهرة الترحم الجماعي الذي غلب في جمهور الثورة، على الراحلة فدوى سليمان، انحصرت التعليقات التي ناقشت جواز الترحم عليها من زاوية دينية، لتظهر كتعليقات شاذة، انعزلت وسط جمهورها المنكمش، ولاقت الكثير من الاستياء والرفض حينما كانت تخرج للعلن في غير مساحاتها الخاصة، لتكون أصوات نشاز.


قِيل الكثير في ظاهرة الترحم الجماعي تلك، التي بدت جليّة في العالم الافتراضي. بعضهم انتقدها من زاوية المبالغة. فيما انتقدها البعض الآخر من زاوية الاستثمار السياسي والإعلامي. ورأى فيها البعض الآخر تأكيداً لسمة تسود بين السوريين، وهي النيل من الأحياء، واحترامهم حينما يدخلون عالم الموت، وهو أمر لم تنجو منه فدوى سليمان نفسها. ولم تخلو حالات النقد تلك، من تشكيك بشخصية فدوى سليمان، ومقدار إخلاصها للثورة السورية. لكن، رغم كل تلك الآراء، كانت الأصوات التي ناقشت جواز الترحم من زاوية دينية، منعزلة ونادرة. وغلب على جمهور الثورة التعامل مع فدوى سليمان، على أنها أيقونة، تستحق كل تقدير.


قبل الثورة، ربما كان من الصعب أن نشهد خروجاً على الفهم الديني التقليدي، بهذا الكم، وبتلك النوعية. وفي سوريا تحديداً، كان الأمر سيبقى بعيداً عن الفضاءات العامة، محصوراً في النقاشات داخل أبناء الغالبية السُنية، التي ستُجامل في العلن، لكنها ستكتم، في أوساطها الخاصة، موقفها الديني تحديداً من قضية الترحم. ذلك الموقف الذي يعكس رؤية شريحة واسعة من السُنة، لمصير ناشطة علوية بعد الموت، تُعد في عُرف بعضهم، ليست في نطاق الإسلام أصلاً.


قد يرى البعض أن الأمر لا يستحق الوقوف عنده حقاً، لكن حينما تقرأ الردود على تلك التعليقات النادرة التي ناقشت جواز الترحم على فدوى سليمان، في حسابات "فيسبوكية" شهيرة، لنشطاء أو لوسائل إعلام معارضة، ستقف دون شك عند الردود ذاتها. فهي الأمر الجديد في طريقة تفكير شريحة من السوريين. تلك الردود التي كانت غاضبة في دفاعها عن فدوى سليمان. وتساءل بعضها على سبيل التهكم، "هل يجوز الترحم على أحمد حسون (مفتي النظام) مثلاً، ولا يجوز الترحم على فدوى سليمان؟!".


في معايير الإسلام الرسمي، الممالئ للسلطة في سوريا، فإن نقاش قضية الترحم على فدوى سليمان، غير وارد أصلاً. لكن في أوساط الإسلام الشعبي، فإن الأمر وارد بقوة، لو كنا في ظروف غير التي نعيشها اليوم في سوريا. وهذا هو الفارق الرئيس، الذي يستحق الوقوف عنده.


فحينما يسود في جمهور الثورة، تغليب البعد الأخلاقي على البعد الديني (حسب الفهم الموروث)، فإن ذلك يعني أن إحدى ثمرات الثورة ربما أينعت. وقد يتطلب ذلك مدى زمنياً قصيراً، كي تُقطف. فأولى الضربات التي قد يتلقاها الاستبداد، تلك التي تنال من مرتكزاته الفكرية، ومن أبرزها، القراءات الدينية التي تبرر الخضوع له، ونظيرتها التي تبرر تقسيم المواطنين بحسب انتماءاتهم الدينية. حينما يتحقق ذلك، يكون حجر أساس في تغيير عقلية السوريين، قد وُضع. ويتطلب الأمر فترة زمنية فقط، كي يُشاد بناء فكري مختلف عليه.


وهكذا احتفظت فدوى سليمان بفرادتها، حتى في مماتها. فهي كانت حالة نادرة خرجت على بيئتها الحاضنة، وكانت من القلّة المتحدرة من تلك البيئة، التي قررت الانحياز لموقف أخلاقي، يرفض الاستبداد، ويفضل الانحياز للشارع. كان ذلك في حياتها. وبعد مماتها، استطاعت أن تكشف عن استمرارية ذلك الانحياز الأخلاقي، لدى غالبية جمهور الثورة، عبر ظاهرة الترحم الجماعي، عليها.


لا يعني ما سبق، أننا وصلنا إلى التغيير المنشود في الفكر والقيم، الذي تحدثه الثورات عادةً في شعوبها. لكننا دون شك، على الطريق. وإن كان هناك جمهور واسع من السوريين، ما يزال يرفض ذلك الانحياز الأخلاقي، ضد الاستبداد والتمييز الديني بين السوريين. إلا أن ذلك الجمهور، حسبما تؤكد ظاهرة الترحم الجماعي على فدوى سليمان، في انحسار. خاصة على صعيد التمييز الديني. وتبقى المعركة ضد مؤيدي الاستبداد أهون. ذلك أن معظمهم يتخذون مواقفهم بناء على المصالح الآنية، وليس بناءً على مواقف عقائدية وفكرية ثابتة.








©جميع الحقوق محفوظة لموقع المدن 2024