الكرة.. أفيون الشعوب؟

شادي لويس

الأربعاء 2017/10/11

بعد كل مباراة تستدعي النزول إلى الشوارع، يظهر دائماً ذلك الرجل الحكيم، أو متصنع الحكمة، الجالس بجانبك في الميكروباص، أو المار بجانب الحشود التي تتقاسم البهجة والحسرة بالتساوي، وهو يمصمص شفتيه تبرماً من لعبة الإلهاء ونزقها. لكن حكمة الرجل الوحيد، المحملة بتعاسة البصيرة المفسدة للذة، ليست ملكه وحده. يتساءل غاليانو، في كتابه "كرة القدم بين الشمس والظل"، ويجيب في الوقت نفسه: "ما هو وجه الشبة بين كرة القدم والإله؟ إنه الورع الذي يبديه الكثير من المؤمنين، والريبة التي يبديها الكثير من المثقفين". يعيد غاليانو تعريف الكرة كونها ديناً، وملاعبها معابد لجماهير المؤمنين. وإذا كان ماركس قد انتهى إلى "أن نقد الدين قد اكتمل.."، فإن تركة النقد التي ورثها من سابقيه وورّثنا إياها، كان لها أن تتجاوز الدين إلى كل شيء: الثقافة الجماهيرية، وصناعة الترفيه، واللعب، والموسيقى الرائجة، والأسرة، بل وحتى اللغة، لتنزع عنها طمأنينتها وشبقها. فخلف كل شيء، شيء آخر يستدعي الحذر، والكثير من الريبة المقلقة.

وسط الاحتفالات بالتأهل المصري إلى المونديال، يعيدنا البعض، بمرارة، إلى ذكرى مذبحة ماسبيرو، والملايين التي تقاضاها اللاعبون كمكافآت عن الفوز في بلد يتضور نصف سكانه جوعاً تحت خط الفقر، وباستغلال النظام للإنجاز النادر لتلميع صورته، وكذا لإلهاء المقموعين عن معاناتهم اليومية. في سوريا، تأجج الجدل حول فصل الرياضة عن السياسة، قبل مباراة سوريا مع إيران، فيما كانت أعلام الثورة السورية ترفع على وقع هتافات" واحد واحد واحد، الشعب السوري واحد"، لتشجيع فريق "سوريا الأسد". وبعد خسارة فرصة التأهل، أمام أستراليا، انقسم معارضو النظام بين الشماتة في فريق لا يمثلهم ولا يمثل سوريا التي يبتغونها، وبين من تحسروا على ضياع اللحظة التي استعادوا فيها الانتماء إلى وطن واحد يبدو بعيداً في الذاكرة والجغرافيا.

يتصدى غرامشي، بالرغم من كل أفكاره الملهمة عن الهيمنة والوعي الزائف، لمديح الكرة: "مملكة الوفاء البشري هذه التي تمارس في الهواء الطلق". فيما غاليانو الذي يفتتح كتابه البديع عنها "بأن تاريخ كرة القدم هو رحلة حزينة من المتعة إلى الواجب"، يعود ليخبرنا لاحقاً بأنها تظل "متعة الجسد المنطلق إلى مغامرة الحرية المحرمة"، وبأن "كرة القدم والوطن مرتبطان على الدوام".
 
وبين النقد وبصيرته المشقية، وتلك البهجة التي تمنحها الكرة ولا يمكن نسبتها سوى إلى السحر وحده، تظل الصورة غير مكتملة. فلعبة الإلهاء غير مأمونة دائماً. ألم تكن روابط الألتراس من مشجعي الكرة، هي الأكثر تنظيماً وربما بسالة أيضاً، خلال الشهور الأولى من الثورة المصرية؟ وحين انحسرت الثورة من الميادين، في كبوة تلو الأخرى، ألم تبق المدرجات ساحتها الأخيرة حيث سقط عشرات القتلى على بواباتها، وانتهى عشرات من مريديها في السجون، فقط بوصفهم مشجعين؟ يدرك النظام الذي أوقف المباريات حيناً، وسمح بها حيناً من دون جمهور، خطر السحر الذي يقلب "الأنا" إلى "نحن". خرجت الجماهير بعد مباراة التأهل أمام الكونغو، إلى الشوارع، وإلى ميدان التحرير مرة أخرى، لا إلى شارع جامعة الدول العربية كالعادة قبل الثورة. إلا أن تلك القِبلة الجديدة للاحتفال ليست أمراً يمكن نسبته فقط إلى العادة المستحدثة. فتلك الحشود الغفيرة لم تخرج فقط بغية الاحتفال، بل للإعلان عن وجودها، واستعادة حضورها في المجال العام الذي أضحى محرماً. أما في سوريا، ورغم الحيرة التي انتابت كثيرين أمام مشاهد أعلام الثورة المرفوعة لتشجيع المنتخب السوري (الرسمي)، فإن تلك اللحظة شديدة الهشاشة من الانتماء إلى سوريا ما، واحدة وللجميع، ورغم طوباويتها وربما ابتذالها أيضاً، هي النقيض لكل ما عمل عليه نظام أقلوي، كان سلاحه الأمضى وما زال هو الطائفية والتقسيم والفرز على خطوطهما.

قطعاً لن تعيد الكرة سوريا، أو تخلقها من جديد. ولن تهب حشود المحتفلين بوصول مصر إلى مونديال روسيا، ضد النظام فجأة. لكن يبقى ذلك الخدر الذي تمنحه الكرة ولذتها الغامضة، على مفترق طرق بين الإلهاء وبين استعادة انتماءٍ إلى "نحن"، ومبرراً للاحتفاء به أحياناً، والتحسر عليه أحياناً أخرى.

©جميع الحقوق محفوظة لموقع المدن 2024