تسول "المشايخ": فتش عن الفساد

حسين خريس

الإثنين 2018/02/12

مشهد تسوّل الشيخ سامي الحاج أحمد أمام دار الفتوى لم يُمحَ من ذاكرة العام 2017 اللبنانية. وهو كاد يفتح ملفات الفساد في المؤسسة الروحية الرسمية لولا وعد رأسها حينذاك المفتي عبداللطيف دريان "الشيخ المتسول" بتنفيس التصعيد في مقابل الحصول على حقه في التثبيت بعد 23 سنة من الخدمة متعاقداً في أوقاف طرابلس.

مشهد الخاتمة للفيلم القصير الذي أعلن نهاية الجزء الأول عبر تهديد الحرّاس خرّيج كلية الشريعة بالقتل في حال لم يغادر نطاق الدار، تبعته اتصالات إرضاء من قبل مبعوث من المفتي هو الشيخ أحمد المير، زميل الشيخ سامي، الذي طالبه بضرورة تخفيض سقف أسلوب المطالبة بحقه بهدف الحصول عليه.

الاخراج الجديد للجزء الثاني من الفيلم كان بأن يصحح الحاج أحمد الخطأ بمقابلة عبر إذاعة الارتقاء في الشمال، يطلب فيها الرضا من المرجع الروحي ويوضح بأنَّ قناة الجديد استغلته ولم تحذف من التصوير ما وعدت به ويبرر عمله هذا وكأنه عمل رمزيٌ تمثيليٌ لمقابلة المفتي.

بعد المقابلة التي انتهت بمشكلة كلامية بسبب رفض الحاج أحمد الانجرار إلى استدراج مقدّم البرنامج محمد أسوم لانتقاد المفتي بشكل لاذع، تلقّى الوسيط رسالة شكر من المفتي دريان جاء فيها حرفياً "بوركت جهودكم".

عاد الأمل إلى تحقيق وعد المفتي للشيخ مع اللقاء الذي جمعه بعضوين من المجلس الشرعي، هما أمير رعد ومظهر الحموي مكلَّفينِ من الدار بنقل مطالبه إلى الدار. فما كان منه إلا أن كرر مطلبه بإلحاقه بالذين ثبتتهم الدار كموظفين لديها ضمن إطار مدرّسي الفتوى بهدف رفع راتبه من 198 ألف ليرة شهرياً، الذي يتلقّاه لقاء التدريس الديني في مدرسة البدّاوي الرسمية، إلى نحو مليون ونصف المليون ليرة.

توسّعت رقعة الاهتمام المتزايد بإرضاء الشيخ من المرجعية الدينية إلى المرجعية السياسية، خوفاً من كرَّ سبحة فتح ملفات الرواتب في دار الفتوى. فتلقّى الحاج اتصالاً من يوسف الفيتروني ممثلاً تيار المستقبل لإبلاغه بأنَّ الأمين العام للتيار أحمد الحريري يريد مقابلته من أجل حلّ مشكلته.

اللقاء مع الحريري حصل في كانون الثاني 2018 في مكتب التيار في طرابلس، ووعد الأخير الحاج أحمد بنقل المطلب إلى رئيس الحكومة سعد الحريري من أجل إصدار قرار بإنشاء ملحق لتثبيت مزيد من موظفي مدرّسي الفتوى، لأنَّ تمويل رواتب هؤلاء مصدره رئاسة الوزراء. وقد علمت "المدن" أنَّ الدورة الأخيرة التي وظفت دار الفتوى فيها 40 شخصاً ألحقت بها واحداً آخر بهدف إرضاء جهة سياسية لتُختم الدورة بتوظيف واحد وأربعين مدرساً للفتوى.

وبعد انقضاء كانون الثاني والأسبوع الأول من شباط حاول الحاج أحمد الاتصال بالوسيطين التابعين لمفتي الجمهورية، فكان الرد: "لم نحصل من الشيخ على الجواب بعد. عليك بالصبر حتى تنال المراد". أما مراجعة تيار المستقبل فلم تلقَ أي صدى إيجابي أو سلبيّ.

عاد الشيخ إلى دار الفتوى. وهذه المرة داخلاً من بابها الرئيس، محاولاً لقاء المفتي. إلا أنّ مساره حُوّل إلى المدير العام للأوقاف الدكتور محمد أنس أروادي، الذي قال له "بدَّك تنزل عالشارع نزال بدك تتظاهر تظاهر وبدك تروح مع حزب الله روح، ما إلك شي عنّا". فردَّ عليه الشيخ قائلًا: "رح آخد حقي منكم إذا مش بهالدني بدار الآخرة". والردّ أُطلِق على مسمع الشيخين عبد الهادي الخطيب وفؤاد اسماعيل.

الفساد الديني "لوين مودّيني"
قضية الشيخ الذي تسوَّل حقه ولم يفلح في تحصيله ستُكِرُّ سبحة قضايا شيوخ أهل السنّة الصامتين عن حقوقهم بزيادة رواتبهم، التي تنحدر في بعض المناطق العكارية إلى ثلاثين ألف ليرة كراتب شهري للمتعاقدين، فيما تصل رواتب المثبتين في الدار، خصوصا القضاة، إلى 6 ملايين ليرة شهرياً.

الحرقة التي ترافق قصة شيخ العمائم، كما يسمّونه في وسط المشايخ نسبةً إلى عمله في لفّ الطرابيش، لا تغادره عندما يتذكر أنَّه تخطّى السنَّ القانونية لأمل تثبيته كمدرّس. وهو الذي أصبح في عمر 43، في حين أنَّ دورات التثبيت لا تُفتح إلا كلَّ خمس سنوات والحد الأقصى للسنّ هو 44.

يكشف الشيخ لـ"المدن" ما لم يستطع قوله سابقاً، وهو تثبيت ثلاثة أشخاص تخطوا 45 من أعمارهم. أحدهم متقاعدٌ من الأمن العام (و. ح.)، الذي ظلَّ يتقاضى راتبينِ على مدى شهرينِ من الدولة قبل أن تفوح الرائحة بشكل فاضح. ما أجبر الإدارة في دار الفتوى على تخييره بين المعاشين.ِ فما كان منه إلا أن اختار راتب الدار.

ومن الذين ثُبتوا في الدورة الأخيرة وفق الشيخ هما: شيخ متورط ببيع الشهادات في كلية شرعية تمَّ إغلاقها في طرابلس وهو (س.ب). وآخر اشترى شهادةً وهو (م. س.)، وقد عادل شهادته هذه في الكلية في بيروت.

إذاً الشيخ في صدد تحضير ملف كامل متكامل عن الفساد الإداريّ في دار الفتوى وتقديمه إلى الإعلام والرأي العام، خصوصاً بعدما تلقّى الردَّ الصاعق على طلبه على لسان المدير العام الحائز على شهادة الطب كغيره من الموظفين الكثر الذين لم يحصلوا على شهادات الثانوية الشرعية، رغم أنَّ النظام الداخلي لا يعطي الأولوية لحاملي الشهادات المدنية، وفق ما قال أحد القضاة لـ"المدن"، رافضاً الكشف عن اسمه.

لماذا تأخر في المطالبة بحقه؟
يُسأل الشيخ عن سبب سكوته طوال هذه الفترة. فيؤكد أنَّه لم يكن يصرُّ على أحقيته بتلك الوظيفة لأنه كان يعتاش من كدِّ يمينه في لفّ الطرابيش "العمائم" لمعظم مشايخ لبنان من الشمال والبقاع وبيروت. إلا أنَّ المصانع ألغت المهنة اليدوية هذه فاستغنى هؤلاء عن اللفّ اليدويّ في العام 2015. ما أجبره على حصر جهوده بالسعي إلى تثبيته في وظيفة أتقنها بحسب العلماء من أساتذته على مدى عقدين من الزمن، ووُعدَ شفهياً من المفتي دريان الذي قال له في اللقاء الأخير "لقد حان دورك كي ترتاح".

وعن تقديمه الامتحانات للتثبيت في الدورات السابقة، يقول إنه كان ينجح في الإختبار الشفهي، لكنه كان يرسب في الإمتحان الخطي "لأنو ما معروف شو خطّي"، على حدّ تعبيره.

وعن أملاكه يقول إنَّ "البيت الذي أسكن فيه وعائلتي المؤلفة من 5 أولاد هو ملكٌ لزوجتي كحال كثير من المشايخ الذين لا يتجرأون على الكلام. أمّا سيارتي فقد تبرع بثمنها (1500 دولار) الرئيس الأسبق للحكومة نجيب ميقاتي وهي مسجلة على أنها أنقاض".

وعن كيفية تأمين قوت يومه، يصرخ الشيخ منكسراً "هناك محسنون يتكفلون بمعيشتي حتى اللحظة". ويسترجع التصريح الذي ورد على لسان الشيخ الشيعي عباس زغيب، الذي قال فيه إنَّ الفرق بين المتسولين من المدنيين والمتسولين المشايخ هو المكان. فهؤلاء يستعطون في الشوارع وأولئك "يشحدون" في المؤسسات.

©جميع الحقوق محفوظة لموقع المدن 2024