مع شربل نحاس والدستور

حسان الزين

الجمعة 2017/05/19
تنتمي حركة "احترموا الدستور، نعم للاقتراع خارج القيد الطائفي" من أجل "استعادة الدولة المدنية" (شربل نحاس وآخرون)، إلى سلالة "حركتي" شطب الإشارة إلى المذهب من سجلات النفوس وحق الزواج المدني على الأراضي اللبنانية.


فهي مثل سابقتيها تستند إلى تفسير الدستور، وتنطلق من مواد فيه تعتبرها مدنيّة. وهي مثل سابقتيها أيضاً تقول إن الدستور مغيّبٌ ويجري استبداله بـ"نظام" عرفي. وهي مثل سابقتيها أيضاً وأيضاً تهدف إلى إحداث خرق دستوري وحقوقي وسياسي وثقافي في الجدار الطائفي. وهي، كذلك، تتجاوز المطالبة الجزئيّة، كما يبدو الأمر في ظاهره، بحق موَاطني بتطبيق "القانون المدني" في أمور تراوح بين الحياتي والهوية الفرديّة والجماعيّة، إلى إحراج السلطة السياسيّة والإدارية من خلال مواجهتها بالدستور. بل تتجاوز ذلك إلى محاولة تحرير الدستور من طغيان السلطة وتفسيراتها وأعرافها.

والأهم من الخطاب المدني هذا، والذي يقوم على فكرة أن القوى السياسية المتسلّطة تغتصب الدستور والدولة والقانون والمؤسسات، وما يطلع في طريقها، هو "عودة" الخطاب التغييري إلى الدولة والدستور. ولهذا، بحد ذاته، دلالات كثيرة.

فإضافة إلى دستوريّة هذا الخطاب ومدنيّته، هو واقعي وسياسي. لا لكونه، استراتيجيّاً، يجذب قوى التغيير نحو مشروع بناء الدولة سلميّاً وديمقراطيّا وقانونيّاً فحسب، إنما لكونه يؤسسس لسحب بساط الدستور- الدولة من تحت أقدام السلطة وقواها ويعرّيها ويكشف "خرقها الدستور بل تغييبه واستباحته من أجل مشاريعها ومصالحها. وقوى التغيير بحاجة إلى ذلك، لا باعتباره ورقة رابحة شعبيّاً فحسب، ولا لإنضاج خطابها وتوسيع قاعدة المستفيدين منه فحسب، إنما باعتباره ثقافة مواطنية ونهجاً سياسيّاً، يقرّبان تلك القوى من المواطن (ة) ومن الفعل السياسي، الذي ينقل تلك القوى، والمواطنين، من الاحتجاج إلى الاعتراض، ولعلّه يفتح الباب لولادة معارضة أو معارضات.

ولهذا أيضاً دلالات وأبعاد عدة، لا تقتصر على النضج السياسي، وإن كان ذلك لا يشمل قوى التغيير كلها. فما بين حركة إسقاط النظام الطائفي، كصدى لبناني للربيع العربي، في شباط 2011، والاستعداد للانتخابات النيابية المنتظرة، مروراً بالحراك ضد النفايات السياسية وصفقاتها في تموز 2015، وبالانتخابات البلدية في أيار 2016، وانتخابات نقابة المهندسين في نيسان 2017، لم تبدأ القوى البديلة تلمّس طريقها وخطابها وبيانها (خطاباتها وبياناتها) فحسب، بل ثمة تحولات كثيرة كثيفة في المجتمع والوعي اللبنانيين.

وأبرز هذه التغيرات هو خروج فئات واسعة من المواطنين إلى الميدان والمساحات العامة الخارجة عن سلطة القوى السياسيّة. ولا يقتصر معنى ذلك على انضمام أعداد كبيرة من المواطنين إلى المتظاهرين بعدما كانوا قلّة من روّاد الاحتجاج في الشارع. مثلما لا يقتصر المعنى على اتساع دوائر الاحتجاج على سياسات قوى السلطة. فحراك 2015 يؤرّخ لانطلاق حيويّات اجتماعية ولعودة الطبقات الوسطى إلى السياسة وساحات المطالبة والمنافسة الانتخابيّة. فبعدما تم تغييب مصالح المواطنين، وفي ظل التمادي باختزالهم إلى أرقام اقتراعية ومذهبيّة، بدأت فئات واسعة من هؤلاء تجد طريقها إلى التحرر من قيود قوى السلطة وخطاباتها المذهبيّة. وفيما ترافق ذلك مع "اختفاء" الانقسام السياسي بين تحالفي 8 و14 آذار واجتماع القوى كلها في سلة السلطة، وإن تساجلت على قانون الانتخابات وغيره من الصفقات والتسويات، بات كل احتجاج أو اعتراض، سواء في الشارع أم في مناسبة انتخابيّة، هو ضد قوى السلطة كلها، بل في دائرة ما بات يُسمّى "المجتمع المدني".

هكذا، وفيما بدأت الحيويات الاجتماعية تجمع نفسها، في حملات ومبادرات وانتخابات وأطر سياسيّة، بدأت تنتج قواسمها المشتركة. وبعدما التقت على النسبية التي تكرّست في القيم السياسية عنواناً للتغيير والديمقراطية و"صحّة التمثيل"، ها هي "تجد ضالّتها" في الدستور وتطالب بدولة القانون والمؤسسات. فالقواسم المشتركة اليوم هي من ثقافة الطبقات الوسطى، المدنيّة والديمقراطية. وإن كان ذلك مازال تعبيراً عن نيّات إيجابيّة لدى الحيويّات الاجتماعية الجديدة، أكثر منه مشروعاً وخطاباً جامعاً، إلا أنّه يدل على بدايات تجاوز المراهقة الثورية وخطاباتها الأيديولوجية القديمة، وعلى بدء الطبقات الوسطى، مع البروليتاريا كي لا يزعل الرفاق، إنتاج مشروعها وخطابها التغييريين السياسيين، وهما خارج قوى السلطة وتحت الدستور وفي الدولة وبالمواطن.

©جميع الحقوق محفوظة لموقع المدن 2024