ترامب يسلّف إيران صفقة العمر

منير الربيع

الخميس 2017/12/07

ليست المرّة الأولى التي تحشر الولايات المتحدة الاميركية حلفاءها العرب. ببساطة وبديهية، إن قرار الرئيس الأميركي دونالد ترامب، الذي لم يجرؤ عليه أي سيد للبيت الأبيض قبله، بنقل السفارة الأميركية إلى القدس، والاعتراف بها عاصمة لإسرائيل، موجّه ضد العرب، وليس ضد أي طرف آخر. بمعزل عن الأسباب الداخلية التي يستند إليها بعض التبريريين لموقف ترامب وقراره، والذين يعتبرون أن المشاكل التي تعصف في إدارة الرئيس الأميركي، هي ما دفعه إلى اتخاذ هذا القرار، لعلّه يشيح الأنظار الداخلية عنه، ويضع في سجلّه ما يعتبره إنجازاً قد يرضي شعبيته التي تراجعت إلى أقل من عشرين في المئة.

حتى وإن صحّت هذه التبريرات، فهذا يعني أن العذر أقبح من الذنب، وينطوي على مدى احتقار "الحليف حليفه"، وحشره أمام بيئته وجمهوره وشعبه وإهانة موقعه ورمزيته، لمصلحة حساباته الداخلية. يلخّص هذا الاحتقار كيفية التعاطي الأميركي مع العرب، وتحويلهم إما إلى ميدان اختبارات سياسية وعسكرية ومالية واستراتيجية. والأخطر من ذلك، أن ترامب اتخذ قراره وصمم عليه، بعد جولة اتصالات مع رؤساء وملوك عرب، وضعهم فيها "تحت الامر الواقع"، فيما لم تقتصر ردودهم على غير الاستنكار والاستهجان، والدعوة التقليدية لمجلس الجامعة العربية، للخروج ببيانات استنكار وشجب اعتاد العرب كما الأميركيين على سماعها منذ 1948. والأنكى أن الجامعة العربية دعيت إلى اجتماع "طارئ" بعد ثلاثة أيام من إعلان ترامب قراره. يبدو أن الاحتقار لا يقتصر على الأميركي وحده.

ليس أوضح من هذه الخطوة الأميركية للتدليل على الاستنباط الأميركي لمعرفة كيفية التعاطي مع الأنظمة العربية. هي السياسة القديمة، التي لم يفقهها العرب بعد، يقاربها أطفالهم في مناهجهم الدراسية، في الترغيب والترهيب. يجد ترامب أن سياسة "العصا والجزرة" مطواعة في يديه مع العرب. يُتهم العرب من قبل الرأي العام الأميركي بالإرهاب، فيهرعون لتثبيت تحالفهم وتعزيزه مع الأميركيين. يعرف الأميركيون من أين تؤكل الكتف، فيستدرجونهم إلى حملات تمويلية ضخمة لمراكز ومعاهد وسياسات تنفي عنهم تلك الصفة، وعلى هذا المنوال، يضطر العرب إلى تقديم صكوك البراءة، وشراء صكوك الغفران الأميركية.

منذ اجتياح العراق في العام 2003، والسياسة نفسها. لوّحت واشنطن بتهديد صدام حسين لدول الخليج. استدرجت تمويلهم للإطاحة به. راهنوا عليها، وأصبحت بغداد أولى العواصم الخاضعة للسيطرة الإيرانية. بعيد انتخاب ترامب رئيساً للولايات المتحدة، هرع العرب إليه، لاستعادة ما فقد في عهد سلفه باراك أوباما، استقبل استقبال الفاتحين في السعودية. كان الرهان على مواجهة إيران وتحجيم نفوذها في المنطقة. لم تمض ساعات على مغادرة ترامب المملكة، حتى فتحت الحرب على قطر. بلا أي مقدمات، أيدها ترامب في البداية تحت هول 400 مليار دولار وتوجه إليهم بالقول لن نقاتل عنكم. وكشف أنه حين سأل عن مواجهة الإرهاب، أشاروا إلى قطر. لا يختلف الخبث الأميركي عن العمى العربي، الذي وجد في قطر تهديداً له، ففرض حصاراً عليها، لم تستفد منه إلا إيران. لم يحقق حصار قطر أياً من أهدافه. وهنا التلاعب الأميركي كان واضحاً، إذ بعد أيام على الحصار، تسلّمت قطر طائرات أميركية متطورة، وأجريت مناورات مشتركة. كما فشل حصار قطر كذلك فشلت مواجهة إيران المستمرة في التوسع من اليمن إلى سوريا ولبنان.

لم يختلف ترامب عن أوباما، هو يسلّم القدس إلى إسرائيل وكان سلفه قد سلّم، دمشق، بغداد وصنعاء وبيروت ضمناً، لإيران وفوقهم إتفاق نووي. يلوح ترامب اليوم بإلغائه وبتعديله، ليس من باب الجدية، بل من باب التهويل والترغيب، تحت شعار محاصرة إيران ولجمها، ولتمرير مزيد من صفقات الأسلحة وفرص العمل، تلك الفكرة التي ركّز عليها بشكل كبير بعيد عودته من "فتحه الخليجي" حين توجه إلى الرأي العام الأميركي قائلاً: "لقد جئتكم بفرص العمل".

قبل القدس، كانت سوريا كلّها، بشمالها وشرقها، بجنوبها وعاصمتها. فتحت إيران خطّها الاستراتيجي من طهران إلى بيروت، مروراً بين القواعد العسكرية الأميركية، فيما العرب يتسلّحون بانتظار الفرج. وبعد سوريا يأتي اليمن، الذي لم يتأخر ترامب بدعوة السعودية إلى فك حصارها عنه، ووقف الحرب عليه، بلا تحقيق أي نتائج، وباستمرار القبضة الإيرانية عليه. أكثر من عرف الاستفادة من الاميركيين هم الإيرانيون، وأكثر من هزمه الأميركيون هو العرب بأموالهم.

ما حدث في بيروت مؤخراً يضاف إلى سجلّ الخيبات العربية من الولايات المتحدة. اعتقد السعوديون أنهم حصلوا على ضوء أخضر أميركي لقلب الطاولة في لبنان. استدعي الرئيس سعد الحريري إلى الرياض وذاع بيان استقالته. كانت واشنطن على جبهة أخرى. نفضت يدها من التصعيد السعودي، ورفضت هز الاستقرار في البلد الصغير. حشر السعوديون مجدداً، خرج الحريري بمسعى دولي وغطاء أميركي وعاد عن الاستقالة. خسرت السعودية في لبنان مجدداً، فيما ارتمى هو بكامل سلطته لدى إيران.

قرار ترامب بشأن القدس خدمة جديدة لطهران، وصفعة جديدة للعرب. ستخرج طهران لتستثمر بفلسطين مجدداً، هي لا تريد القدس، وإن أرادتها فهي على تماسها، لكن ما تريده من ذلك هو إطالة طريق "فيلق القدس" أكثر، بحيث لن يعود مقتصراً على الزبداني وحمص وحلب، وهو بلا شك وصل إلى ما بعد صنعاء، وما بعد بعد عدن. سيطول طريق القدس وسيتجول قاسم سليماني في ساحات جديدة، لتطويق ما أنتجه قرار ترامب، في كل الساحات العربية. فيما العرب سيتسلّحون بمزيد من الصبر والأسى.

©جميع الحقوق محفوظة لموقع المدن 2024