سوريا: المنطقة الآمنة.. صراع الجميع على مناطق استقرار جديدة

فادي الداهوك

الجمعة 2015/11/27

أعطت المغامرة الروسية باختراق الأجواء التركية، دفعة قوية للرئيس التركي رجب طيب أردوغان، لإنجاز ملف "المنطقة الآمنة" شمالي سوريا، بين جرابلس وأعزاز في حلب. لكن ما يثير الانتباه مؤخراً، أن الرئيس التركي أصبح يتحدث عن منطقة آمنة تتجاوز المسعى التركي المعروف، إذ بات يحرص على القول إن المنطقة الآمنة تمتد من جرابلس إلى سواحل البحر المتوسط، والمقصود بذلك من جرابلس في ريف حلب الشمالي، إلى جبل التركمان في ريف اللاذقية الشمالي.

تشكّل منطقة جبل التركمان- وهي تسمية غير معتمدة رسمياً في سوريا في التقسيم الإداري للمناطق- مركز تهديد كبير لتركيا على حدودها الجنوبية قبالة إقليم هاتاي(الاسكندرون). لكن بالقدر ذاته، يشكّل دعم تركيا لقوات المعارضة في تلك المنطقة تهديداً خطيراً على النظام السوري والقاعدة العسكرية الروسية في الساحل. استراتيجية هذه المنطقة تجيب على التساؤلات حول سبب تركيز القصف الروسي على مناطق المعارضة جنوبي إقليم هاتاي التركي، في الجانب السوري من الحدود، حيث يتخذ الصراع للسيطرة على جبل التركمان طابعاً مصيراً، كانت روسيا مستعدة من أجل تحقيقه إلى مغامرة نكثت فيها عهدها بعدم خرق المجال الجوي التركي، والتضحية بمقاتلة "سو-24" وطيّارين.


للمواجهة الروسية-التركية الأخيرة مقدمات مهمة. الخميس 19 تشرين الثاني/نوفمبر، أعد النظام حملة عسكرية كانت تهدف إلى إبطال تهديد المعارضة في جبل التركمان. وبالفعل، تمكّنت القوات البرية السورية والمليشيات الداعمة لها من السيطرة على قمة "برج زاهية"، ما أدى إلى شلّ حركة المعارضة في منطقة بايربوجاق (التسمية التركية لجبل التركمان)، نظراً لإشراف البرج على المنطقة بشكل كامل، حيث يعتبر نقطة رصد واستطلاع تحقق للطرف المتحكم بها كشف خطوط الإمداد من تركيا والسيطرة عليها نارياً.


مهّدت روسيا لحملة النظام البرية على بايربوجاق، قبل نحو أسبوع من انطلاقها، بغارات مكثّفة استهدفت المنطقة، أدت إلى نزوح الآلاف من التركمان باتجاه تركيا، فاُجبرت أنقرة على بدء عمليات طارئة لإنشاء مخيم جديد لهم قرب بلدة يايلي داغ التابعة لإقليم هاتاي التركي على مساحة 200 دونم قبالة قرية خربة الجوز السورية. وبالتوازي مع ذلك، تحرّكت أنقرة دبلوماسياً وتوجّهت إلى مجلس الأمن الدولي من أجل وقف القصف الروسي على مناطق التركمان، إلا أن ذلك الأمر لم يحقق نتائج فعلية. وفي الوقت ذاته، كانت تركيا تؤمن إمداداً مفتوحاً للمعارضة التركمانية للصمود بوجه هجوم قوات النظام براً بإسناد جوي روسي، فتمكّنت المعارضة من شنّ هجوم معاكس واستعادت ما خسرته. الواقع، إن المعارضة حققت تقدمها بعد الخطأ الجسيم الذي ارتكبته روسيا، وأدى إلى إسقاط مقاتلتها، ما شكّل خللاً مفاجئاً أبطل خطة الإسناد الجوي للقوات البرية للنظام.


يحتمل إعلان الرئيس التركي عن توسيع المنطقة الآمنة لتشمل جبل التركمان أن يكون مجرد استعراض متشنّج للقوة. لكن إذا تحول ذلك إلى تحرّك جدي، فإنه ينطوي على مخاطر أمنية وسياسية كبرى على تركيا وحلفائها، وعلى المنطقة ككل، ما قد يؤدي إلى إقفال ملف المنطقة الآمنة بشكل نهائي.


أولى المؤشرات على ذلك جاءت من روسيا، بعد نشرها منظومة "اس-400" في قاعدة حميميم، لتقرر موسكو فرض منطقة حظر طيران غير معلنة فوق سوريا، أو بين حميميم وجبل التركمان على الأقل. والمنظومة الجوية تعد من بين المنظومات الأحدث والأهم في العالم، وهي عبارة عن تطوير روسي للنظام الأقدم "اس-300"، حيث يصل مداها إلى 400 كيلومتر، وبإمكانها إصابة الطائرات والصواريخ الباليستية وصواريخ كروز.


نشر المنظومة الروسية الحديثة من شأنه أن يفرغ الاستقواء التركي من فعاليته، إذ يعتبر ذلك تهديداً جسيماً للإقليم، ولحدود حلف "شمال الأطلسي". ومن ذلك، فإن الإصرار التركي على توسيع مساحة المنطقة العازلة سيؤدي إلى انفضاض الشركاء الداعمين لهذا المسعى، وإلى دفع أطراف كثيرة، من بينها الولايات المتحدة، نحو إفشالها، لتجنّب مواجهة خطرة للغاية قد تحصل على حدود "الناتو" في المنطقة. لكن الخلل الأبرز الذي حققته المنظومة هو خرق التفاهم الروسي-الإسرائيلي حول تنسيق العمليات العسكرية الجوية فوق الأرضي السورية.


في 21 أيلول/سبتمبر الماضي، لم يتطرق لقاء نتنياهو وبوتين، في موسكو، إلى إمكان قيام روسيا بنشر منظومات دفاع جوي من هذا النوع. هذا الحدث المستجد يعيد التفاهم الروسي-الإسرائيلي إلى نقطة الصفر، ويفرض لقاءً جديداً بين الطرفين. فالقلق الإسرائيلي هذه المرة مضاعف، لما يشكله نشر المنظومة في الساحل السوري من تقييد لحرية التحرك الإسرائيلي في الأجواء السورية. وفي المقابل، فإن إقرار منطقة آمنة من جرابلس إلى جبل التركمان، يعني هجرة كبيرة لعناصر تنظيم "الدولة الإسلامية" باتجاه الوسط والجنوب في سوريا، الأمر الذي سيترتب عليه معارك ضارية على مناطق استقرار جديدة بين الجميع في مساحة أضيق: "المعارضة المعتدلة"، والفصائل الإسلامية، وتنظيم "الدولة الإسلامية"، وقوات النظام، ومليشيا "حزب الله" اللبناني، والميليشيات الإيرانية.


بناءً على ذلك، تتعقد الأمور أكثر في الجنوب. إسرائيل تتجنب الخوض في دعم واضح لـ"التحالف الدولي" ضد تنظيم "الدولة"، لكن طبيعة الصراع الذي سينتج عن توسيع المنطقة الآمنة، سيضعها أمام مواجهة محتملة مع التنظيم، وهذا الأمر هو آخر ما ترغب به، نظراً لوجود مناصرين له، ومواطنين من "عرب إسرائيل" انضموا إلى صفوفه. كما أن "حزب الله" سيكون مضطراً إلى فتح جبهات جديدة للقتال وخطوط إمداد إضافية، وهذا خط أحمر غليظ، حافظت إسرائيل طوال السنوات الماضية على عدم السماح بتجاوزه. في لقاء بوتين-نتنياهو كان احترام ذلك الخط سلساً؛ هذه المرة ليس بالضرورة أن يكون كذلك؛ لذا قد تتشارك الدولتان في وأد فكرة توسيع المنطقة بين جرابلس وأعزاز.

©جميع الحقوق محفوظة لموقع المدن 2024