"الجنتلمان" الروسي و"الدب" الإنجليزي

بسام مقداد

الأحد 2016/06/26

أطل الرئيس الروسي فلاديمير بوتين على العالم في العام 1999، وكان لا يزال رئيساً للوزراء حينها، بتعبيره السوقي الشهير "سوف ننقعهم في المرحاض"، وكان يتحدث عن قصف الطيران الروسي لمدينة غروزني، حيث كان يعتبر حينها أن كل من فيها إرهابياً. واعتبر العلماء الروس أن هذا التعبير وضع الأساس لعادة استخدام اللغة السوقية من قبل الطبقة السياسية الحاكمة في روسيا. ويذكر اليابانيون جيداً نائب رئيس الوزراءالروسي والمسؤول عن المجمع الصناعي الحربي يوري راغوزين، حين توجه الى الحكومة اليابانية، التي احتجت على زيارة رئيس الوزراء الروسي ديمتري ميدفيديف، العام الماضي، إلى الجزر المتنازع عليها، بالقول "لو كانوا رجالاً حقيقيين لقاموا بالهاراكيري (طريقة الانتحار اليابانية) وارتاحوا.. إنهم يثيرون الضجيج لا غير".

بوتين، الذي يحب ركوب الخيل عاري الصدر ومن دون سرج، ويحب ركوب الدراجات النارية بالسترة الجلدية مع أصدقائه راكبي الدراجات من مجموعة "ذئاب روسيا الليلين"، وجد الفرصة سانحة اليوم ليعلم رئيس الوزراء البريطاني ديفيد كاميرون، أصول اللياقات الدبلوماسية! فقد رد بوتين في تصريحه من أوزبكستان، حيث ينعقد مؤتمر قمة "منظمة شانغهاي"، على تصريح كاميرون الذي اعتبر فيه أن روسيا "معنية بخروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي" وأن "بوتين سعيد"، بأنها تصريحات "لا تستند إلى أي أساس. واعتبرُ أن هذا ليس سوى محاولة خاطئة  للتأثير على الرأي العام في بلده.. وهذا ليس سوى عرض لمستوى ثقافة سياسية متدنية".



لكن محاولة بوتين الظهور بمظهر حيادي لم تكن ناجحة، مع بيان الكرملين الذي صدر، السبت، حيث لم يتمكن من إخفاء الترحيب الشديد والبهجة، وذلك انسحب على كافة الصحف والمواقع الإعلامية التابعة للكرملين في تعليقاتها على الزلزال البريطاني. فقد نشر موقع "SP" الروسي مقالة لنائب رئيس الدوما ألكسندر رومانوفيتش قال فيه، إن الإستفتاء البريطاني "سوف يدخل التاريخ كانتصار للديموقراطية على البيروقراطية. فالاتحاد الأوروبي، الذي نشأ في البداية كاتحاد اقتصادي، تحول تدريجاً إلى وحش عابر للقوميات ينزع، تدريجياً، السيادة من الدول. البيروقراطيون الأوروبيون توقفوا عن الاستماع إلى صوت العقل، بل يسمعون الصراخ العالي لبلدان مثل لاتفيا وبولونيا أو إستونيا البعيد عن منطق العقل". واعتبر أن إقرار العقوبات على روسيا، وأزمة المهاجرين، شكلا نقاط تحول بالنسبة للاتحاد الأوروبي. وفقدت الكثير من الشركات الأوروبية سوقاً كبيرة نتيجة العقوبات الروسية المضادة، وفقد الناس البسطاء أماكن عملهم وأجورهم، لكن "بروكسل كانت تعلن بإصرار أن السياسة فوق الاقتصاد". كما كان قلة من الناس على استعداد لاستقبال ملايين المهجرين، ومن بينهم السوريين. أما المواطنون "وخلافاً للسياسيين، يدركون استحالة الاندماج السريع في المجتمع لملايين الناس من عقلية وثقافة ولغة مختلفة، من دون المخاطرة بتزايد الجريمة والإرهاب، وتدمير النظام الصحي والتعليمي".



وتحت عنوان "الإستفتاء البريطاني: فرصة لروسيا" نشر الموقع عينه مقالة أخرى للمعلق أندريه إيفانوف، يقول فيها "بعد انتصار المتشددين في المملكة المتحدة سوف يضطر الغرب للخروج من الفضاء ما بعد السوفياتي". بلدان أوروبا الشرقية دخلت في الاتحاد الأوروبي على أمل الحصول على "التدفقات المالية والمساعدات والمنح". أي كأنهم كانوا يقولون "نحن سوف نوافق على كل ما تقوله بروكسل، لكن مقابل ذلك سوف يطعموننا طعاماً شهياً ولمدة طويلة". لكن سكان دول أوروبا الغربية الأكثر غنى "ليسوا سعداء جداً بمثل هذا المستقبل". وهذا ما قاله البريطانيون، وطالبت به زعيمة اليمين المتطرف في فرنسا مارين لوبان، لإجراء استفتاء مماثل في فرنسا، وكذلك غيرت ويلدرز في هولندا، على حد تعبير الكاتب.


لكن هذه الأصوات ليست وحدها التي عبرت عن ردة فعل الروس، بل ارتفعت في أجهزة الإعلام وصدرت عن الأحزاب المعارضة لسلطة بوتين أصوات عاقلة، لم تعبر عن شماتتها بالزلزال الأوروبي، بل عبرت عن اسفها لما حدث، وعن ومخاوفها من النتائج، التي سوف تترتب عليه. فقد كتب موقع "LENTA.RU" المستقل بأن على روسيا "ألا تخدع نفسها بضعف الاتحاد الأوروبي، فأوروبا الضعيفة ليست لصالحنا أبداً". فنتائج الإستفتاء سوف تعزز، على الأغلب، دور الولايات المتحدة  وحلف الناتو في السياسة الدولية، إذ لم يعد لدى الاتحاد الأوروبي مورداً ليشكل الوزن السياسي المقابل للولايات المتحدة  "كما كانت تأمل روسيا كثيراً". وبريطانيا لا تزمع الخروج من حلف الأطلسي. كما أن بعض الدول السوفياتية السابقة، وفي حال تفاقم الأوضاع في الفضاء السوفياتي السابق، واستمرار "الخطر الروسي"، كما تراه نخب هذه البلدان، سوف ترغب أكثر في الانضمام إلى حلف الناتو، لأنه سيصبح "الضمانة الوحيدة لأمن هذه الدول، حيث كان الاتحاد الأوروبي يشكل مثل هذه الضمانة سابقاً".


وعلى الرغم من التوقعات التي بدأت تبرز في روسيا حول إمكان التخفيف من العقوبات عليها، فإن الحال المستجدة تفترض أن هذه "العقوبات يمكن أن تصبح اختباراً لاستمرار ما يشبه وحدة الاتحاد الأوروبي".


ويقول المفكر والمؤرخ الروسي الكبير أندريه زوبوف، الذي يترأس مجموعة كبيرة من المؤرخين والمفكرين التي تتولى كتابة تاريخ روسيا في القرن العشرين -وهو التاريخ الذي لم يكتب على حقيقته حتى الآن- إن نتائج الاستفتاء البريطاني "مهمة ومُحزنة جداً سياسياً"؛ هي مهمة لأن نصف البريطانيين نسوا لماذا قام روبير شومان وجان مونيه وكونراد أديناور وجوزيف دوساتي بوضع أسس الاتحاد الأوروبي ما بعد الحرب. فقد نشأ الاتحاد "ليس ليصبحوا أكثر غنى ( وإن كان الأمر منتظراً)، بل كي لا تندلع حروب في أوروبا بعد ذلك".


ويتابع زوبوف بالقول "ولحكام روسيا الحالية أقول، من المبكر أن تبتهجوا. أوروبا لن تخربوها. النضال من أجل السلام في أوروبا يدخل في طور جديد. وسوف يكون نضالاً قاسياً. لكنكم أنتم، الساسة الروس، الذين أشعلتم الحرب في القارة، لن تنتصروا. سوف تنتصر روسيا الجديدة، روسيا التي تذكر كأس مأساة الأعوام 1939- 1945، ولا تريد أن تشربها من جديد".


ويقول زعيم "الحزب الديموقراطي الروسي الموحد" (يابلاكا) غريغوري يافلينسكي، المرشح السابق للرئاسة الروسية ضد بوتين: "لقد أثبتت بريطانيا أنها الجزء الأهم من أوروبا. و سوف تعيش بريطانيا ويعيش الاتحاد الأوروبي ونعيش نحن مع النتيجة، التي أسفر عنها الاستفتاء. (هذه النتيجة) طرحت العديد من الأسئلة الحادة، أكثر مما شكلت حلاً لأمر ما".


ويقول يافلينسكي، إن الاتحاد الأوروبي سوف يعتمد، في الأغلب، النموذج عينه من العلاقات التي يتبعها مع النروج وسويسرا، وسوف يقوم، أخيراً،  بإجراء "الإصلاحات التي نضجت منذ زمن بعيد". ويشير إلى أن الرئيس الروسي تساءل عشية الاستفتاء مستغرباً "ما حاجة ديفيد كاميرون للاستفتاء، إذا كان هو ضد خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي؟"، ويجيبه يافلنسكي بالقول "لأن هكذا تفعل الحكومة، التي تحترم مواطنيها".


ومن الملفت أنه لم يصدر عن الأحزاب المعارضة للنظام من داخله، مثل الحزب الشيوعي أو الحزب اللييرالي الديموقراطي (جيرينوفسكي) أي موقف حتى الآن، علماً أن روسيا كانت، بأسرها، منهمكة في متابعة أصداء نتائج الاستفتاء البريطاني.

©جميع الحقوق محفوظة لموقع المدن 2024