الفساد في السويداء:سياسة النظام الممنهجة

همام الخطيب

الأحد 2016/05/01
في السويداء لم يعد الفساد ظاهرة استثنائيّة وسرّيّة، بل أصبح سياسة منظّمة يتبعها النظام، وفق إستراتيجية عامّة تجاه المجتمع السوريّ والثورة السوريّة؛ حيث إنّ الفساد مؤسسة رابحة في السويداء، باتت تُدير ملفات الخطف والتهريب والإغاثة، كروافد مهمّة في تنمية اقتصاد الحرب ودعمه. والفساد في سوريا يُخطّط له النظام وينفّذه وفق شبكة علاقات مدروسة ووفق آليات تشرف على وضعها وتنفيذها مؤسسات وأجهزة الدولة الأمنيّة والعسكريّة والسياسيّة.

ويعتبر الخطف هو الأخطر في السويداء، لما له من تأثيرٍ على السلم الأهليّ داخل المحافظة، وبين المحافظة ومحيطها، خاصة محافظة درعا. ويعدّ رئيس فرع "الأمن العسكري" وفيق ناصر، الحاكم العسكريّ للمنطقة الجنوبية، عرّاب هذا الملف عبر وكلائه داخل المحافظة وخارجها. وقد اعتمد ناصر على الوكلاء البدو من أبناء السويداء، أكثر من اعتماده على الوكلاء الدروز؛ وذلك بسبب إمكانيّة استغلال البدو واستثمار وضعهم كأقليّة ضمن أقليّة. ويُضاف إلى ذلك قدرة البدو على التنقل والدخول إلى مناطق لا يستطيع الدروز دخولها؛ إن كان غرباً إلى محافظة درعا، أو شرقاً حيث يتواجد تنظيم "الدولة الإسلامية".

وعاد ملفّ الخطف بعائداتٍ ماديّة كبيرة على مليشيات النظام في السويداء، خاصة "الأمن العسكريّ"؛ وذلك عن طريق خطف المواطنين من السويداء أو درعا، ومن ثمّ طلب الفدية مقابل إطلاق سراحهم. وقد بلغ إجمالي المبالغ المدفوعة كفديات ما يفوق 850 مليون ليرة سورية، من محافظة السويداء وحدها، هذا عدا عن الفديات المدفوعة من قبل ذوي المختطفين من خارج المحافظة. وزاد عدد الآليات المسروقة على 700 آلية. وتقوم بعض مجموعات الخطف بتهريب أناس مطلوبين للأجهزة الأمنيّة إلى خارج درعا، لقاء مبلغ يتراوح بين 100 و200 دولار للشخص الواحد.

ومن أهمّ المجموعات التي يعتمد عليها وفيق ناصر، هي مجموعة الشيخ جامل البلعاس، وهو من بدو السويداء وحليف قديم لـ"الأمن العسكريّ". البلعاس كان ومجموعته قبل الثورة يعملون لصالح "الأمن العسكريّ" بصفقات التهريب، ولهم امتداداتهم في محافظة درعا وفي المناطق الواقعة شرقي محافظة السويداء. أمّا أبان الثورة فمنهم من انتمى إلى الجيش الحرّ ومنهم من انتمى إلى "جبهة النصرة" ومنهم من بقي تحت إمرة وفيق ناصر، بشكل مباشر. ولكن بقي ولاء المجموعة لـ"الأمن العسكريّ" مع اختلاف انتماءاتها الشكليّة. وهذا ما يفسّر أنّ الخطف كان من كلّ الأطراف.

ومن المجموعات الفاعلة في عمليات الخطف، داخل السويداء، مجموعة يوسف الباشا، وأغلب أعمالها داخل المحافظة، وتختصّ بخطف المطلوبين لصالح "الأمن العسكريّ" ويعتقد بأنّها هي من قامت بخطف الطبيب عاطف ملّاك. وهناك أيضاً مجموعة أنور الكريدي، الذي ينتمي إلى "جمعية البستان"، ومجموعة نزيه جربوع، وغيرها.

من جهة أخرى، يُعتبر التهريب المورد الأكبر الذي يغذّي اقتصاد الحرب في السويداء، وتعتمد عليه المليشيات بشكلٍ كبير، ويمكن القول إنّها أصبحت قادرة على تمويل نفسها ذاتياً، ولاسيّما بعدما عجز النظام عن تمويلها بشكلٍ كافٍ، وسبق أن مرّت شهور لم يوزّع النظام فيها الرواتب على مليشياته. وتعد مادة المازوت هي الأكثر تداولاً في سوق التهريب، بعد السلاح طبعاً؛ حيث يقوم المهربون بنقل المازوت الذي يشترونه من تنظيم "داعش" المتواجد في المناطق الشرقية من المحافظة. ويتراوح سعر شراء البرميل بين 25 و30 ألف ليرة سورية، ومن ثمَّ يبيعونه في درعا بـ60 ألفاً.

ويرى نشطاء في المحافظة، أنّ هناك تعاوناً وتنسيقاً كبيراً ما بين تنظيم "الدولة الإسلامية" وعناصر مليشيات النظام. كما تؤكّد بعض المصادر وجود مفرزة لـ"الأمن العسكريّ" في المنطقة الشرقية، مهمتها جباية الأموال من المهربين، ويشرف عليها عماد إسماعيل وبدر سليمان. ومعظم الهجمات التي قام بها مسلّحون في المناطق الشرقيّة من المحافظة كانت في هذا السياق؛ أي بغية تحصيل ديون متراكمة على المهربين، ومنها الهجوم الذي حصل على قرية الحقف العام الماضي.

أما بالنسبة للمعابر التي يسلكها المهربون، فهي خمسة رئيسة، تسيطر عليها الفروع الأمنيّة، محاصصة في ما بينها؛ وهي: معبر القريا- بصرى والمسؤولين عنه هما وفيق ناصر وجامل البلعاس، ومعبر كناكر–الأصلحة والمسؤول عنه نبيل الشعشاع أي أنه تابع لـ"الأمن السياسي"، ومعبر صما-المزرعة تحت سيطرة رشيد سلوم ومعتز أبو سعد أي "الأمن العسكري و"أمن الدولة"، ومعبر ملح–طربا–رشيدة– شهبا، أي تحت سيطرة العميد محمد معروف، رئيس فرع "أمن الدولة" بواسطة، وسام الطويل.

ومن ناحية أخرى، تمّ رصد الكثير من حالات الاتجار بالسلاح غير المرخص والاتجار بالمخدرات. وتنشط في هذا المجال مليشيا أحمد جعفر الملقب بـ"أبو ياسين"، وهو شيعي من مدينة بصرى الشام جاء إلى السويداء بعد سيطرة فصائل المعارضة عليها واستقر في بلدة القريا. وفي أواخر العام 2015، قامت مجموعة من شباب القريا وقوات "الدفاع الوطنيّ" بمداهمة مزرعة أبو ياسين بعدما لاحظوا حركات مشبوهة داخلها؛ ووجدوا هناك كميات ليست بقليلة من السلاح وكميات كبيرة جدّاً من المواد المخدّرة، من ثمّ قاموا بإلقاء القبض عليه وتسليمه للجهات الأمنيّة. وبعد ساعات عاد أبو ياسين إلى مزرعته، ما يشير إلى تنسيق كبير بينه وبين القوى الأمنيّة في المحافظة.

بالنسبة لملف المحروقات داخل المحافظة، ففي بداية العام 2015، اعتمد المسؤولون في المحافظة نظام القسائم لتوزيع الحصص على المواطنين، وأشرف على هذه العملية المحافظ عاطف النداف، ومدير مكتبه وسيم جنبلاط، والموظفة في مكتب المحافظ أمواج شلغين. وقد طال هذه العملية الكثير من الفساد حتى أصبحت حديث الساعة لدى الأهالي في السويداء، حيث بلغ عدد دفاتر القسائم المزورة 15000 دفتر، واشترك في عملية الفساد المحامي العامّ في المحافظة أسعد السيّاف، عن طريق محطة "السيّاف" التي تعود ملكيتها له. وقامت المحطة بتسهيل صرف القسائم وبيع المحروقات وتصريفها لصالح تلك الشبكة. وعندما اتّسع التداول في تلك القضية بين أوساط الأهالي، قام المسؤولون بتقديم وسيم جنبلاط، ككبش فداء واتهموه بالفساد، وتمت ملاحقته إلا أنّهم أخرجوه من السجن بعد أيام لعدم رغبتهم في جعل الملف قضية رأي عام فتتكشف من خلالها عوراتهم.

في السياق ذاته، يمكن الحديث عن عملية تهريب الآثار التي تمّت في آذار/مارس؛ إذ إنه أثناء الحفر عند دوار النجمة بغية إشادة أساسات لبناء ضخم، عُثر على كميّات من الآثار والمعادن الثمينة، فتمَّ تطويق المنطقة وجاءت سيارات تابعة لـ"الأمن العسكريّ" نقلت هذه الآثار إلى جهة مجهولة. ويتداول الأهالي في السويداء أنّ هذه العملية أشرف عليها وفيق ناصر، وعضو مجلس الشعب -حديثاً- معين نصر، وتعود العلاقة بينهما إلى أن الأخير يملك أكبر مجمع تجاريّ وسكنيّ في المحافظة وهو "برج الريم"، وفيه تعقد معظم الاجتماعات المهمّة لوفيق ناصر. إضافة إلى قدرة معين نصر، المادية الهائلة، والتي تفيد في دعم المليشيات التابعة لـ"الأمن العسكريّ". وكان معين نصر، قد وزّع الكثير من السلل الغذائيّة والأموال في حي مساكن الضباط في حي القلعة، وحصل على أصوات كثيرة من قبل المكوّن العسكري في المحافظة، مع أنّه لا يحقّ للعسكريّين التصويت في الانتخابات التشريعية، قانونيّاً، ولكن في هذا الجوّ المفعم بالفساد فكلّ شيء مباح.

وما يجعل البحث في ملفّ المعونات والإغاثة مهمّاً، هو المؤشرات الكثيرة حول الفساد الذي طال العمل الإغاثي في المحافظة، وتحديداً العمل الذي تشرف عليه أجهزة الدولة. ومن تلك المؤشّرات، النقص الذي أصاب السلال الغذائية كمّاً ونوعاً؛ حيث تمّ تخفيض الكميّات التي تتكوّن منها السلة الغذائيّة، كما تمَّ إلغاء بعض الأنواع التي تتكوّن منها السلة الغذائيّة. على سبيل المثال، بدل أن تحوي السلة 5 كيلوغرامات من الأرز أصبحت 4، وألغيت المعلبات من هذه السلّال. السوق أصبح مليئاً بالمواد الغذائيّة غير المخصصة للبيع والمكتوب عليها ذلك، فهي مواد إغاثيّة. وأصبح من غير المستهجن إذا دخلت إلى أحد المحلّات التجاريّة في المحافظة، وقمت بسؤال البائع عن مادة الأرز فيجيب بالسؤال التالي: أتريده عادي أم معونات؟

وبالنسبة للآليّة المتّبعة، يقوم المحافظ بإعطاء السلال الغذائيّة التي يحصل عليها من "الأونروا" وغيرها من هيئات "الأمم المتّحدة" إلى شيخ العقل يوسف جربوع، الذي يقوم بدوره بالإشراف على توزيعها في مقام عين الزمان. وأثناء هذه العملية يحدث الفساد بطريقة ما، تصعب معرفتها، إلا أنّ المؤشّرات عليها باتت كثيرة. وذلك بالإضافة إلى سوء التوزيع، فكثير من الأغنياء حصلوا على سلال غذائيّة، في حين أن المحافظة تعج بالفقراء الذين لم تصلهم تلك المعونات.

الاستثمار في موضوع الإغاثة، وصل إلى حد تشكيل مليشيات مسلّحة تخدم النظام، مثل "جمعية البستان" التابعة لرامي مخلوف، والتي تديرها في السويداء هند زهر الدين، زوجة العميد في "الحرس الجمهوري" عصام زهر الدين. ودخلت هذه الجمعيّة إلى السويداء على أنّها جمعيّة خيريّة، ورخّصت على أساس ذلك إلا أنّها سرعان ما شكّلت مليشيا مسلّحة تقوم بالتهريب والخطف، والمسؤول عنها اليوم أنور الكريدي.

وسبق للمليشيات احتلال منازل بعض المعارضين وسرقة محتوياتها، وجعلها أوكاراً للفساد والتشبيح. ومنها قيام قائد مليشيا "الدفاع الوطنيّ" رشيد سلوم،  ومليشيا "البستان" أنور الكريدي، بالسيطرة على مبانٍ وشقق سكنيّة تعود ملكيتها للإعلامي المعارض فيصل القاسم وجعلها مقرّات لهم.

لوفيق ناصر، حصّة الأسد في كلِّ ملفّات الفساد هذه؛ حيث إنّه يستثمرها سياسياً واقتصادياً. ويمكن حصر فوائد النظام من الفساد، بتورّيط أكبر عدد ممكن في منظومته، خاصة الشخصيات السياسيّة والاجتماعيّة والدينيّة المهمّة. كما أنّ الفساد يفتت ويذرّر بنى المجتمع وهذا ما يخدم استراتيجية النظام العامّة تجاه المجتمع السوريّ، حيث يؤسس لحرب الجميع ضدّ الجميع، ويبقى بذلك هو القوة الوحيدة والأقوى والأكثر تماسكاً على الأرض. إضافة إلى ربط المهمشين والعاطلين عن العمل بشكل عضوي في منظومة الفساد ما يخرجهم من دائرة الحراك المطلبيّ.

كما استفاد النظام من مبالغ كبيرة من ملفي التهريب والخطف، وتخفف من عبء دعم المليشيات الموالية له، فأصبحت بمعظمها مموّلة تمويلاً ذاتياً ولا تحتاج إلى الدولة إلا في مجال الحصول على الشرعية والحصانة وتأمين شبكة العلاقات.
©جميع الحقوق محفوظة لموقع المدن 2024