تماثيل لبنان... صعود الناصرية وأفولها

محمد حجيري

الأحد 2017/09/10
(*) العابر في ساحة بلدة برجا الشوفية، لا بدّ أن يلاحظ تمثال الرئيس جمال عبد الناصر النصفي، بقي صامداً برغم التحولات السياسية، في تلك الساحة الضيقة والقديمة، وليس بعيداً منه صورة لظافر الخطيب الذي سقط خلال الحرب الأهلية. لا أعرف ان كان تمثال عبد ناصر بقي صامداً منذ انشائه في برجا، فليس لدينا الأرشيف الكافي لرصد اليوميات السياسية والحربية في لبنان، ما أعرفه ان معظم تماثيل عبد الناصر في لبنان تعرضت للتفجير والنسف والانتقام، عند مدخل بعلبك وفي قب الياس والضاحية الجنوبية وعين المريسة والطريق الجديدة وربما أماكن اخرى. كانت حمى تشييد تماثيله علامة على وهجه وسطوته وفي الوقت نفسه علامة على الفراغ الذي تركه في وجدان أنصاره بعد رحيله، كأنهم اصيبوا باليتم، إلى درجة أن نزار قباني كتب في رثائه:
 قتلناكَ.. يا آخر الأنبياءْ
قتلناكَ ..
ليس جديدا علينا
اغتيال الصحابة والأولياء
فكم من رسول قتلنا..
وكم من إمام ذبحناه وهو يصلي صلاة العشاء..
فتاريخنا كله محنة..
وأيامنا كلها كربلاء


وكتب محمود درويش قصيدة بعنوان "الرجل ذو الظل الأخضر"
نعيش معك
نسير معك
نجوع معك
وحين تموت
نحاول ألا نموت معك! 

وهناك عشرات القصائد التي تمجد عبد الناصر وتجعله في مرتبة "النبي"، والزعيم المصري العروبي "الهادر" الذي توفي 28 في أيلول 1970، لم تجد لجان تخليده وسيلة لتكريمه سوى تشييد التماثيل (بعضهم رفض التماثيل لأسباب شرعية ودينية، وأسس جمعيات وأندية تعنى بمسار عبد الناصر ومسيرته)، وكتب المؤرخ دومينيك شوفالييه أنه بالنسبة إلى الكثير من الجماهير الشعبية، صورة عبد الناصر تعدّ رمزاً للوحدة العربية، والأمر لا يختلف في التمثال...

هكذا كان لعبد الناصر الكثير من التماثيل والأنصاب في البقاع وبيروت والجبل وحتى البيوت الخاصة، معظمها شيّدت في بداية السبعينيات. كان الناصريون والعروبيون يزيحون الستار (او الستائر) عن التماثيل في لبنان، بينما كان الرئيس المصري محمد أنور السادات، يحضر لانقلابه، ذهب إلى مجلس الشعب(المصري)، وهناك انحنى أمام تمثال عبد الناصر المقام في المجلس، وألقى خطابا تعهد فيه بالسير على درب سلفه "الممجد". ولكن ما لبث ان انقلب، حرض على حملة تشويه طاولت الزمن الناصري، وبدأ مرحلة "الإنفتاح" الاقتصادي والتقارب مع الغرب والاسلام السياسي، قبل أن يحط في تل أبيب ويوقع كامب ديفيد. وفي لبنان، سرعان ما بدأت محاربة الناصرية من خلال الحرب على تماثيلها، فلكل مرحلة أنصابها...

بلدة قب الياس البقاعية، التي بنت أكبر تمثال لعبد الناصر(9 امتار) عام 1971، بحضور حشود لبنانية الى جانب (خالد) نجل الرئيس عبد الناصر، استفاقت ذات يوم من أيام 1976 على تفجير التمثال، قيل أن المخابرات السورية دمرته، وقيل ان الكتائب ايضاً التي نفت التهمة... أن نقول ان المخابرات السورية البعثية دمرت تمثال قب الياس، فهذا كان إشارة إلى بدء مشوار الأسدية السياسية في لبنان، التي بدأت تترسخ تدريجيا من حرب السنتين (1975 - 1976) حتى الاطباق السياسي على لبنان عام 1990...

وليست الموجة "الحافظ أسدية" وحدها من دخل على الخط اللبناني، ففي حارة حريك - الضاحية الجنوبية، نسف تمثال عبد الناصر مع صعود موجة حزب الله في الثمانينات ولا توجد تفاصيل او صور عنه، وفي أواخر كانون الثاني 1983 نسف تمثال عبد الناصر في بعلبك بمتفجرة اسقطته من قاعدته و"بادر رجال من التنظيمات الناصرية الى نقل التمثال من مكانه، وكان التمثال تعرض لخمس محاولات نسف. وهو أقامته لجنة تخليد عبد الناصر" في المنطقة ورفع الستار عنه في 17 /10 / 1971 في احتفال رسمي وشعبي(...) والتمثال مصنوع من البرونز الصافي، نحته الفنان المصري جمال الدين السجيني، وصب البرونز مصطفى متولي...وبينما كتب على قاعدة التمثال "فإن حزب الله هم الغالبون"، كتوقيع من الفاعلين، اتهم حزب الإتحاد الاشتراكي العربي، أحد فروع الناصرية في لبنان، "عملاء شارون بتنفيذ العملية". (النهار 31 كانون الثاني 1983). ولم يطل الوقت، ففي منتصف نيسان 1983 "وضع مجهولون عبوة ناسفة قدرة قوتها بخمسة كيلوغرامات من مادة الـ ت ن ت، عند قاعدة التمثال (عبد الناصر في عين المريسة) وعند الساعة الواحدة والنصف فجراً، انفجر قسم من العبوة قدرة بكيلو غرامين، وتسبب الانفجار بتصدع قاعدة التمثال دون تدميرها. وكان مجهولون اقدموا قبل يومين، على نسف تمثال عبد الناصر في الطريق الجديدة" (السفير 14 نيسان 1983). ووزعت الوكالة اللبنانية للأنباء الصادرة عن حزب الكتائب، تعليقاً لاوساط سياسية جاء فيه "من المؤسف بعد كل الذي جرى وبعد حرب الثماني سنوات ان تكون القلوب ما زلت معلقة برموز لا تمت إلى لبنان بصلة. وكان الاجدر بهؤلاء رفع أي تمثال او لوحة لشخصية لبنانية او لزعيم وطني بدلا من الحرص على رموز مرّ عليها الزمن".. وذكرت اذاعة "صوت لبنان" الكتائبية أن "اهالي عين المريسة هم الذين أقدموا على إزالة النصب لرفع الارزة اللبنانية مكانه"، وتردد أن من أزال لوحة(مجسم عبد الناصر الصورة اعلاه) التمثال أو النصب كان تحت أعين القوى الأمنية والعسكرية... وكتب الروائي إلياس خوري مقالا بعنوان "خطف التماثيل"، قائلا "تمثال ينسف، تمثال يسقط، تمثال يخطف! كأنها الحرب الأهلية تستعاد ضد جمال عبد الناصر"(...) "اكتشفوا انه واحد من هؤلاء الغرباء"...(السفير 19 نيسان 1983)، يومها كانت فوبيا الغريب الفلسطيني والعربي على أشدها في لبنان.
ذهبت موجة تماثيل عبد الناصر وبدأت موجة مجسمات حزب الله والخميني في المناطق الشيعية، وفي التسعينات شهدت بوابات المدن اللبنانية وبعض ساحاتها موجة تماثيل آل الأسد، من اللبوة الى بعلبك وشتورا وبيروت وصور وعكار، وسرعان ما رحلت أو أزيلت بمعظمها مع خروج الجيش السوري من لبنان، وهذا موضوع آخر نعود إليه لاحقاً... أما تمثال عبد الناصر، فما زال موضع جدل والتباس، تماماً كما الذين ما زالوا في الخط الناصري، فالزعيم(عبد الناصر) الذي رحل قبل نحو نصف قرن، لم تنته "رمزيته"، وما زال موضع تمجيد وانتقام في الوقت نفسه، فقد هدم الاسلامييون تمثاله في بنغازي في شباط عام 2012 بعد سقوط المرحلة القذافية، وفي المقابل "خلّده" الرئيس الراحل هوغو تشافيز بتمثال نصفي في فنزويلا في يونيو عام 2013. وفي أسيوط، مسقط رأس عبد الناصر، أزيح الستار عن تمثاله في 29 يناير 2014... وفي نهاية عام 2016 ازيح الستار عن تمثال آخر له في بورسعيد... وبين هذا وذاك، كل التماثيل لم تكن أكثر من عبادة شخصية للزعيم. الذين شيدوا التماثيل يعبدون شخصية، والذين فجروا التماثيل لديهم زعيمهم الذي يعبدونه بشكل من الأشكال، بالقوة أو بطريقة غسل الدماغ أو بالهذيان، ليس أقل دليل على ذلك، تلك الهتافات التي تسمعها حتى في مهرجان وضيع، أو حتى في اعتصام لبعض العمال. هذا إلى جانب أن السياسة في الشرق الأوسط تقوم بدرجة بارزة جدا على الأشخاص. فملامح السلطة او الزعامة في الاحزاب اللبنانية، وكذلك الميليشيات، بحسب الباحث تيدور هانف، تبرز عبر الصور  العديدة للزعماء أكثر ممّا تبرز عبر البيارق أو الأزياء الموحّدة. الولاء السياسي هو ولاء لأشخاص بدرجة اولى أو للمنظمات أو البرامج بدرجة ثانية.


نتحدث الآن عن تماثيل عبد الناصر وأنصابه... والسؤال أين هم ناصريو لبنان اليوم؟ هم احتجوا على تفجير تمثال الزعيم في بنغازي عام 2012 في لبنان، وفي الوقت نفسه هم تحت مظلّة من فجر تماثيله في لبنان.


(*) هذا ملف ينشر تباعاً عن التماثيل والأنصاب في لبنان، هنا حلقة أولى عن تماثيل الرئيس الراحل جمال عبد الناصر، الذي تمر في 28 الشهر الجاري ذكرى وفاته.
 
©جميع الحقوق محفوظة لموقع المدن 2024