سلطة السخافة وتسخيفها

روجيه عوطة

الإثنين 2018/04/16
ثمة سلطة تشتغل في البلاد، تتسلل، تظهر، وتسيطر. سلطة تتنقل من التلفزيون إلى منصات التواصل، وبينهما، شاشة الاجتماع، ووسط الثقافة، وداخل الجامعة، وعالم السياسة، ودنيا الأعمال، ورجاء الصحافة، وحيز الفن، والعيش نفسه. سلطة موجودة فعلياً أينما كان، وقد تصيب أي أحد. سلطة بالمعنى الحرفي، بالمعنى المنخفض، سلطة "متسلبطة"، تقطع الطريق على كل ممكن غيرها، وذلك، من خلال الإدعاء بأنها هو، أنها الممكن، ولا داعي للبحث أبعد منها.

الخضوع لهذه السلطة، الإنخراط فيها، إنتاجها، التبشير بها، وبالتالي، الفوز بها، لا يستلزم الكثير، وهذا، في الحقيقة، إغراؤها، بحيث أنها لا تستدعي سوى صيت، وصورة، وإتفاق على قيمتهما المستمدة من الترداد الدعائي فقط لا غير. مثال: نجلس مع شخص، يقرأ نصاً بسيطاً، يقول أنه شاعر، نقول أنه شاعر، يصدق أنه شاعر، نصدق أنه شاعر، والإعلان يستمر، وتصير قصيدته الحمقاء هي القصيدة. على هذا النحو، تحكم هذه السلطة، بالدنيء من الكلام، بجعله أداة تسويق، وتصديق لفظه على إثر معاودته مرة تلو المرة، وذلك، أي كانت مزاولته ركيكة، وتحقيقه ضعيف، إذ لا حاجة للسؤال عنهما البتة، بل الإكتفاء بالدنيء من هذا التساؤل أيضاً، أي باستفهام الإنكار:"ماذا يعني بقصيدته؟" بدلاً من "كيف يجري الاعتقاد بأن هذا ضرب من الشعر؟".

هذه السلطة تدعى السخافة، وهي سلطة دارجة لأن ممثلها، الممتثل لها، يظن أنها لا تشترط عليه لكي تمده بقوتها سوى القليل منه، لكنها، في الواقع، تشترط عليه أن يهبها كل شيء فيه، وعندها تجعله سخيفاً، وعندها، تخبره وهماً، وهو أنه كلما كان على شاكلتها، يغدو المقبل له. أن يكون هذا الممثل، الممتثل، سخيفاً، فالطريق إلى ذلك سهل، يكفي أن يردد الشائع، أي نوع من الشائع، أكان "رجعيا" أو "تقدميا"، مع نبرة الإبتكار، مع نبرة "إكتشاف البارود". السخيف قد يكون حينها مقتنعاً بأنه مبدع لأن محيطه يجبره على ذلك، وربما، قد لا يكون مقتنعاً بابداعه لكنه مقتنع، وهنا، سخافته، أنه "ذكي" و"يلعبها"، فهو، في الحالتين، يريد أمراً بعينه، وهو أن يكون، كالسلطة التي تحكمه، ذائعاً ومطلوباً.

يبغي السخيف، على الدوام، أن يكون محطاً، محط شتم، أو محط تنويه، فلازمته هي رفع الـ"نحن" أو "أناها" باعتبارهما بلا غير وبلا نظير، لأنهما في متناول الإبتذال. السخيف يقول "الكل يحبني"، ويقول "آه، كم يكرهني الكل"، ويكمل: "هذا دليل على مكانتي"، والأخيرة، لا يحصل عليها من الإندماج في السخافة فقط، بل من رد الفعل عليها، الذي لا يؤدي سوى إلى تكريسها، أي بالتسخيف أيضاً.

فمع طغيان سلطة السخافة، هناك بزوغ لسلطة التسخيف، التي يتوجب على الساكن فيها، والمستكين لها، أي فاعلها، أن يسخف كل الأشياء من حوله. هذا ما يوفر له الشعور بامتلاكه قيمة، وهذا ما يوفر له أن يقيم في جموده، في انعدامه، على حسبانه أن "كل شيء لا معنى له"، وأنه هو القابض  بذلك على المعنى. من السهل أن يكون المرء سخيفاً، ولكن، من اليسير جداً أن يكون مسخفاً. الأول ينتج الثاني، والثاني هو صميم الأول. فتسخيف السخافة هو السبيل إلى الالتصاق بها، إلى حملها، إلى الأهول بها، بطريقة غشاشة للغاية، بحيث أن هذا السبيل ينطوي على الإغتباط بها، على السرور بوضوحها، وبالتالي، ينطلق من هدف الحفاظ عليها.
"تعيش السخافة لأنها تسمح لي بتسخيفها، لأنها تتيح لي الشعور بكوني لست سخيفاً، وفي الوقت نفسه، أنتمي إليها"، يقول المسخِّف، الذي، في الواقع، يجد في السخافة حلمه، الذي لم يستطع أن ينفذه، لهذا، قرر الإقلاع عنه بتدميره، وحينها، بالذات، استولى هذا الحلم عليه، وراح يفرزه. السخافة لا تهيمن بإدعاء أنها ليست سخافة فقط، بل بآلية أكثر دناءة، بآلية تسخيفها أيضاً، وربما، هذه طريقتها الأكثر فعاليةً في التغلب والتوسع الآن. السخافة خطيرة، لأن الإصابة بها تساوي امتهانها، لأن التساخف في إثرها يعادل تسخيفها، لأنها، وعندما توصل إلى العدمية الغليظة والخاملة، تنتصر، ولا تتوقف عن الإنتصار.
©جميع الحقوق محفوظة لموقع المدن 2024