المهرجانات المصرية: ضوضاء الناس القرفانة

يارا نحلة

الخميس 2017/12/07
مضى عقد من الزمن، على ظهور موسيقى "المهرجانات" التي ولدت من رحم الأحياء المصرية الشعبية، في صحوة العصر الإلكتروني. فمنذ استحداث الموسيقى الإلكترونية، تهافتت عليها الجماهير العربية، واحتواها صنّاع الموسيقى لتصبح جزءاً من الممارسات الفنية للعالم العربي. وأخذت صنعة "الدي جي" (المنسق الموسيقي) تنال زخماً في الأوساط الشبابية، فتبناها البعض كما هي، أي بشكلها الغربي الأصيل، وأضفى عليها آخرون مزاجاً شرقياً. وحدها الساحة المصرية تفرّدت بخلق موسيقى إلكترونية عربية خاصة بها تطورت سريعاً لتصبح أشبه بحالة أو ظاهرة عربية.

تطوّرت الموسيقى الإلكترونية المصرية بالتوازي مع تطوّر دور"نبطشي الأفراح" (أي منشد الأعراس)، فكانت موسيقى "المهرجانات" هي نقطة الإلتقاء بينهما. و"المهرجانات" هي موسيقى إلكترونية تعتمد على إيقاعات شرقية مستمدّة من التراث الشعبي المصري، مصحوبة بمؤثرات صوتية كثيفة وبغناء شبيه بالراب. نظراً للسهولة المادية لإنتاج هذا النمط الموسيقي، غزت المهرجانات ساحة الأعراس المصرية التي تبحث عن متعة موسيقية بكُلفة متدنية. وبالصدفة، خرج أول "مهرجان" مصري من منطقة السلام في القاهرة، وتحديداً من متجر هواتف تابع لعمرو حاحا.

حاحا الذي كان يبيع نغمات للهواتف النقالة، استعان ببرامج الكومبيوتر المتوافرة لديه لإبداع نغمته الخاصة وبيعها. لواقى لحن حاحا رواجاً سريعاً، فجاءه مغنٍ شعبي يطلب منه غناء اللحن. منذ ذلك الحين، تحوّلت هذه المصادفة إلى صيحة ثقافية أتاحت للشباب المصري الذي لم يكن يمتلك منبراً، أن يحول حاسوبه إلى أداة تعبير موسيقي.

من حيّ السلام الشعبي نفسه، ظهر "سادات العالمي" الذي، أصبح من أشهر مغني "المهرجانات". في حديثٍ أجرته معه "المدن"، ظلّ سادات يردّد عبارة "بتاعتنا"، مميزاً بين المهرجانات وغيرها من أنماط الموسيقى المستوحاة من الخارج. فالمهرجانات "هي الموسيقى الخاصة بنا، فهي تشبهنا وتعبّر عنّا، بعكس الراب والـunderground وما يطلقون عليه تسمية الموسيقى المستقلة". كذلك، يفرّق سادات بين المهرجانات والموسيقى التجارية السائدة، إنطلاقاً من هوية منتجيها وخلفياتهم المنفصلة عن الدوائر الفنية والثقافية، ويشير إلى أن "معظم الأنماط الموسيقية العربية أوجدها فنانون كبار في حين أن المهرجانات ولدت على أيدي عيال صغيرين تحت عمر العشرين".

على أيدي شباب "صُغيَّرين"، اخترقت المهرجانات المشهدين الموسيقي والسينمائي اللذين لطالما احتكرتهما حيتان شركات الإنتاج، وذلك بفعل طبيعة إنتاجها التي تعتمد على معدّات بسيطة من أجل التسجيل، والسوشيال ميديا من اجل التسويق. وبالنسبة الى سادات، لم تعد الموسيقى حكراً على النجوم "الكبار"، "ففي الأحياء المصرية، كل يوم يولد نجم جديد مع مهرجان جديد، فينتشر عبر السوشيال ميديا إذا ما أحبه الناس". أما شرط نجاحه فهو "صدق مشاعره".

والحال أن "المهرجانات" لا تجمّل واقع المواطن المصري، بل تعكسه بما فيه من شوائب.

وكذلك لا يسعى منتجو المهرجانات إلى إخفاء شوائب الصوت أو التعديلات التقنية التي تجرى عليه. فخلافاً لما هو سائد في الصناعة الموسيقية، ليس "نقاء" الصوّت المغنّى او النوتة الموسيقية، ضمن إهتمامات منتجي المهرجانات، بل إنهم يستخدمون التقنية من أجل التلاعب بالصوت البشري وجعله أقرب ما يكون إلى صوت الآلة، ما دفع بكثيرٍ من المستمعين إلى وصف هذه الموسيقى بالضوضاء. فبإتخاذها الأعراس منصةً أساسية لها، نمت موسيقى "المهرجانات" خارج أي إطار مؤسساتي، ما حرّرها من سلطة شركات الإنتاج ومعاييرها الجمالية والتجارية. أدّى ذلك إلى "ليونة في تشكيل الجماليات"، كما يقول لـ"المدن" الموسيقي والمنتج المصري رامي أبادير.

لم تقتصر هذه الليونة على الشكل فحسب، بل انعكست في محتوى الأغنية أيضاً. ففي قالبٍ ساخر ونابض بالحيوية، يطرح المهرجان موضوعات مرتبطة بحياة الشباب المصري ويومياته التي تنأى عنها عادةً المنتجات الفنية التجارية، كالمخدرات والفقر والتحرّش. وهنا لا بدّ من الإشارة إلى أن صيحة المهرجانات بلغت ذروتها بين العامين 2011 و2013، أي تزامناً مع إندلاع الثورة المصرية. فبالرغم من ظهور المهرجان قبل ذلك بأعوام، إلا أنه "استمدّ وهجه وطاقته من الثورة، أي من اللحظة التي بدأنا نجرؤ فيها على التعبير"، وفق سادات. وهكذا، إتخذت المهرجانات طابعاً ثورياً عفوياً وغير مقصود، يحاكي واقع الشارع وإن لا يعالجه مباشرةً. فهي لم تدخل ميدان الأغنية السياسية، بل ظلّت بمثابة نافذة تطلّ على المشهد السياسي والإجتماعي.


لعلّ أبرز ما يميّز المهرجانات عن غيرها من أنواع الموسيقى العربية المتأثرة بالإلكترونيك هي الفكاهة المصرية التي تعبّر عنها كلمات الأغنيات، من دون تكلّف أو افتعال، وإن كانت تتناول أكثر المواضيع تشاؤماً ويأساً. ففي مهرجان "إلعب يلا"، يغني الثنائي الشهير أوكا وأورتيغا عن رغبة فئة من الناس غير المستقيمين بالـ"رجوع إلى ربنا"، ونبذ المعاصي وتحديداً تعاطي المخدرات، إلا أن "الشيطان" يقف بينهم وبين إرادتهم، فيأخذهم "في سكة شمال". عليه، خرج الثنائي بأغنية "ترقّص" وتوضّح "رسالتهما". أما عن ماهية الرسالة، فيقول الثنائي صراحةً "إفضل صلي، لو غصب عنك"، ليعود ويكرّر "إلعب يلا، ولّع يلا".

لم ينحصر نجاح المهرجانات في الجمهور المصري الذي يمثّله، بل لاقى شعبية ملفتة في دولٍ عربية وعالمية أخرى. وقد أقدم DJs على الدخول في عالم المهرجانات، فنقلوا موسيقى الأعراس المصرية إلى الجماهير الغربية. وفي حالة مشابهة لظاهرة عمر سليمان، تمّ إحتواء هذه الصحية الفنية من قبل الأوروبيين الباحثين عن متعة "الإيكزوتيك" من جهة، والدوائر الثقافية البديلة في أوساط الطبقة الوسطى العربية التي تبحث بدورها عن الإيكزوتيك الشعبي، خصوصاً إذا ما نال هذا الشعبي إعجاب الأوروبي.

وهنا يميّز أبادير بين نوعين من الموسيقيين العالميين الذين يعملون في مجال المهرجانات؛ الأوّل ينتج هذه الموسيقى لمجرّد أنه يعشقها (مثل "الدي جي" السويسري "في البطيخ")، والآخر يتعاطى معها بشكلٍ "غرائبي"، مثال فرقة Cairo Liberation Front. يصف أبادير النوع الثاني بـ"الإنتهازي"، وهو يشمل موسيقيين أجانب عمدوا إلى الاستيلاء على موسيقى المهرجانات، ثمّ أطلقوا عليها تسمية جديدة هي "إلكترو شعبي". ويعلّق أبادير في حديثه مع "المدن": "مضحك جداً أن يقوم الأوروبيون، من على منابرهم وحفلاتهم، بتجاهل التسمية التي اختارها المصريون وإختراع تسمية خاصة بهم، والمؤسف أن المصريين أخذوا يستخدمونها أيضاً ويتماهون معها".

ويشبّه أبادير هذه المقاربة الغربية للمهرجانات بتعاطي النخبة الثقافية معها. فهو يرى أن النخبة التي تفصلها درجات طبقية عن فناني المهرجانات، تنظر هي الأخرى بغرائبية إلى هذا النوع الموسيقي، وهي "قد احتوته بشكلٍ مشابه لإحتواء الأبيض لخصائص ثقافية خاصة بالسُّمر". لكن بالرغم من ذلك، فقد ساهم بعض الفنانين التجريبيين في تطوير هذه الموسيقى وخرجوا بأعمالٍ صادقة، مثال موريس لوقا.


إن صخب المهرجانات، بالمقارنة مع ما سبقها من صيحاتٍ موسيقية مصرية، دفع بالأجيال الأكبر التي توقّف بها الزمن عند عمرو دياب، إلى وضعها في خانة الضجيج. غير أن ما يصفه هؤلاء بالـ"ضوضاء"، ما هو إلا صدى للضوضاء العربية التي شهدها العقد الأخير، بكلّ ما فيه من تناقضات. فعلى إيقاع موسيقي سريع يدعو إلى الرقص و"الفرفشة"، يصدح مغنّو المهرجانات ليفصحوا عن أحزان وهموم مشتركة، يمكن وضعها في إطار "النق العام".

وبشكلٍ فوضوي بعض الشيء، تتقاطع في المهرجان هموم الشأن العام بالهمّ الفردي الخاصّ، مع إختفاء الفواصل بين الإثنين. وخير دليلٍ على هذه الفوضى الفكرية/العاطفية هو مهرجان "ما فيش صاحب بيتصاحب" الذي تنتقل كلماته بعشوائية بين التذمّر من القضايا العامة كالغلاء، والشكوى من المشاكل الشخصية كفقدان الصداقة. وبشيءٍ من المبالغة الدراماتيكية، يعلن الخطاب المغنّى عن موت الصداقة والرجولة، ويضع هذه المسألة الشخصية في سياق مللٍ قوميٍ عام، مغنياً عن "الناس التعبانة والقرفانة" ولهم. ومع إمتلاء العالم العربي بالناس القرفانة، وجدت المهرجانات الكثير من الآذان الصاغية.  
©جميع الحقوق محفوظة لموقع المدن 2024