يوسف رخا: إحذروا القبيلة الأدبية.. وإلا كفَّرَتكم!

أحمد شوقي علي

الإثنين 2017/09/18
يبدو مصطلح "الجماعة الأدبية" في صيغته العامة مربكًا حين يضاف إليه لفظ "الرقابة"، فإذا افترضنا أن هذه الجماعة تتكون من منتجي الأدب والمهتمين به، كتّاباً ونقاداً، فما نوع الرقابة التي يمكن أن يمارسوها؟ وهل تملك هذه الجماعة سلطة حقيقية بالأساس؟

دشن صالون "ابن رشد"، الشهر الماضي، سلسة لقاءات ثقافية تحت عنوان "السرد والرقابة"(*)، يحررها ويديرها الروائي أحمد زغلول الشيطي، وتستهدف استقصاء التجارب الذاتية للروائيين مع الرقيب، ما يحيل بالضرورة إلى أن "رقابة الجماعة الأدبية"، الذي اختاره الكاتب المصري يوسف رخا عنوانًا لتجربته، إذ استعرضها أمس في اللقاء الثاني للصالون. ويكشف عن تعرضه لشيء من رقابة هذه الجماعة، التي تتخلى، وفق هذا المفهوم، عن إطار المصطلح العام، فتشير إلى مجموعة محددة من الأفراد وإن لم يسمِّهم صراحة.

يقول يوسف رخا: "مررت بتجارب رقابية عديدة، على المستويين الذاتي والمؤسسي، لكن هذه الأنواع من الرقابة لم تؤثر فيّ، إنما تأثرت برقابة أقراني؛ ذلك المجتمع الصغير الذي أعتقد أنه ما زال يتعامل تبعًا للقيم الريفية ويطالب أفراده بالولاء المطلق من دون النظر إلى شرط القيمة الأدبية".

ولا يقصد صاحب "كتاب الطغرى" بالمجتمع الصغير؛ مجتمع الكتّاب، وإنما يشير إلى ما يضمه ذلك الأخير من "غيتوهات" صغيرة يرى أنها ضرورية للكاتب المصري الذي "يحتاج إلى جماعة تدعمه وتشعره بجدوى ما يقوم به وتمنح أعماله الاستمرارية"، وذلك لافتقار عملية الإنتاج الأدبي للمناخ السليم، قائلاً: "عندما ذهبت إلى أوروبا، وجدت أن للسوق الكلمة الأولى في تقديم الكاتب للقراء، بالإضافة إلى مئات الجوائز التي تغطي كافة الأشكال الأدبية، وتمنح للعمل الأدبي، سواء كان نخبويًا أم تجاريًا، ولا جماعة أدبية متحكمة في شيء. أما هنا، فأنت إذا خرجت من هذه العائلة فربما لا تكتب أصلًا".

لكن الانتماء لمثل هذه الجماعات، ليس مجانيًا، يدفع العضو ثمنه عبر شكل من أشكال الطاعة الحزبية، أو حسبما يوضح رخا: "تسير المسألة وفق: هجامل اللي هياجملني، من دون أن أقول رأياً نقدياً من أي نوع.. في خطاب شغال بتاع الشلة ديه، ولازم أنت تدعم هذا الخطاب ولو معملتش حاجة، الناس تزعل، لازم تثبت إنك داخل هذه الجماعة. أنك تنتمي للعائلة".
وليست متابعة جدية هذا "الانتماء"، من عدمها، هو ما يقصده رخا من "الرقابة" التي حملت الندوة عنوانها، وإنما ما تمثله وصاية تلك الجماعة على أفرادها، التي قد تنطوي ممارساتها على آلية التقييم والمنع الرقابيتين. وهي وصاية، بحسب رخا، قد لا تكون مادية، وإنما تُرَسخ في ذهن الكاتب فتقوم بمثابة الرقيب الذاتي. فمن جهة، هو يكتب ولديه إحساس بأنه "محاسب من مجموعة من الأشخاص، كأن إجازتهم ما يكتبه بمثابة شهادة الجودة.. ياسر عبداللطيف، مثلًا، يملك سلطة جبارة، سلطة ملهاش علاقة أبدًا بالسلطة بمفهومها السياسي؛ سلطة تقييم". ومن جهة أخرى، "لا يستطيع الكتاب إنجاز تجربة أدبية ما أو إصدار كتاب ما، خوفاً من الخروج من تلك العائلة. لأن هذه التجارب ربما تهدد مكانة العائلة، أو مكانة أفرادها"، مضيفاً أن "حدة هذه الجماعة الأدبية في رفض وتهميش من يختلف معها بلا تردد، تشبه كثيراً تكفير تيارات الإسلام السياسي للخارجين عليها".

وتبدو الأخيرة السبب الأقرب لخروج صاحب "أزهار الشمس" من "عائلته الأدبية". فإن كانت تلك الآلية "تعطله، وتعطل الأديب عمومًا"، وإن لم يكن يتقن حقًا "الانتماء لعائلة، ربما لأني نشأت كابن وحيد"، إلا أنه من القليلين بحسب تعبيره الذين يمتلكون "التهور لتناول هذه الجماعة في عمل أدبي".

ولمن اطلع على الإنتاج الروائي لرخا، والذي يضم ثلاث روايات، هي: "كتاب الطغري"، و"التماسيح"، و"باولو"، يعرف أن روايته الثانية الصادرة في العام 2012 (دار الساقي) هي المقصودة، إذ تتعرض أحداثها لجماعة أدبية من كتّاب التسعينات، كما تحمل أسماء الأبطال فيها إسقاطات على أسماء بعض الكتاب في الواقع، مثلاً: رضوى عادل (أروى صالح)، ليث الحيوان (أسامة الدناصوري)، صقر الجنايني (هيثم الورداني)، وأدهم اليمني (أحمد يماني). وفي حوار أجراه يوسف رخا، في شباط/فبراير الماضي، مع منصورة عز الدين في جريدة "أخبار الأدبط، وصفت منصورة كتابته لتلك الرواية بأنه "فجّر نفسه في جيل التسعينيات"، وهو ما أجاب عليه قائلًا: "أعجبني ما قلتيه من أني فجرت نفسي في جيل التسعينيات،‮ ‬لأني شعرت أن هذا ما حدث فعلاً،‮ ‬لكن ليس في جيل التسعينيات وحده،‮ ‬بل في الوسط الأدبي المصري كله‮. ‬وأنا أكتب‮ "‬التماسيح‮" ‬أحسست أنني أقطع صلتي مع الجميع،‮ ‬أو أقول رؤيتي وليحدث ما‮ ‬يحدث‮. ‬كنت قد رأيت من الزيف ما‮ ‬يكفي‮. ‬أنتِ‮ ‬شخصياً‮ ‬علاقتكِ‮ ‬بالوسط الأدبي محدودة‮. ‬بعد فترة‮، ‬يصاب المرء بالنفور ويكون مستعداً‮ ‬للتضحية باحتفاءات ومكاسب محتملة كي لا‮ ‬يشارك في كل هذا الزيف‮. ‬للأسف القابلية على الحكم المسبق هائلة،‮ ‬وكذلك القابلية على نفي الخارجين على الرأي العام وإقصائهم خارج‮ ‬القبيلة‮".‬

واعتبر رخا، خلال الندوة، أن روايتيه "التماسيح" و"باولو"، لم ينالا حظ أعماله الأخرى من الانتشار، لا سيما نصوص أدب الرحلة، من بينها: "كل أماكننا"، "بيروت في محل ما"، "شمال القاهرة غرب الفلبين"، "لا يوجد سمك في البحر".. وغيرها. هنا، وجهتُ له سؤالاً حول السبب الذي يعتقد أنه وراء ذلك. فـ"كتاب الطغري"، مثلاص، كان روايته الأولى، وقد صدرت في الأسبوع نفسه الذي تنحى فيه مبارك، وهي رواية نخبوية، صدرت عن "دار الشروق" التي كانت آنذاك تستهدف جمهوراً أكثر شعبوية، ومع ذلك فقد حققت انتشارًا ملحوظاً، على عكس "التماسيح" التي كانت تتحدث عن ثورة يناير، وصادرة عن دار مثل "الساقي". فأجابني رخا: "لما كتبت الطغرى كنت وسط جماعة أدبية". واستطرد: "في الماضي، حين كنت منتميًا لجماعة أدبية/عائلة، كنت أنشر مقالًا، فأجد له استجابة تتخطى الـ150 تعليقاً، أنظم فعالية تخص مناقشة أعمالي فيحضرها عدد كبير جدًا، ثم يحدث أن يصدر لي عمل معين، بعدها ملاقيش حد".

ربما اتضحت النقط الأخيرة بجلاء في تلك الأمسية. فموضوع الندوة وضيفها، يوحيان، بعدد لا بأس به من الجمهور، لكن العدد الفعلي الذي حضر اللقاء، يمكن حصره في أصابع اليد الواحدة: ثلاثة من العاملين في الصحافة وأنا واحد منهم، والروائية ضحى عاصي وصديق لها، وصديقة جاءت بصحبة يوسف رخا، والروائي أحمد زغلول الشيطي مدير اللقاء، بالإضافة إلى العاملين في دار ابن رشد التي استضافت الأمسية.


• "السرد والرقابة"، سلسلة لقاءات شهرية، أسسها الروائي أحمد زغلول الشيطي، وتستهدف استقصاء موضوع الرقابة لدى أجيال مختلفة من الروائيين، وتستضيفها دار ابن رشد في وسط القاهرة. استضاف اللقاء الأول، في آب/أغسطس الماضي، الروائي محمود حامد، صاحب "أحلام ممنوعة"، وهي واحدة من ثلاث روايات صودرت العام 2001، في أزمة شهيرة وصل صداها إلى أروقة البرلمان المصري، وعرفت باسم أزمة "الروايات الثلاث".
©جميع الحقوق محفوظة لموقع المدن 2024