بيت الطاعة الفني

روجيه عوطة

الإثنين 2018/02/12
بعدما جمع "غاليري تانيت" (مار مخايل النهر) أعمال 19 فنانة حديثة ومعاصرة في صالته، مطلقاً على العرض عنوان "أنوثات متعددة"، حاول أن يشرح مرد فعله هذا من خلال ورقة مكتوبة، يوزعها على زائريه. في نهاية هذه الورقة، وإثر انتقاله بالتعبير الوصفي من عمل إلى غيره، ينتهي إلى أن المشترك بين الفنانات هو أمر بعينه: السفر. بالتالي، يطيح الغاليري بمحرك معرضه، الذي حدده بإبانة ما يسميها "الأنوثة" عبر جمعه لأعمال أنتجتها نساء، مستعيضاً عنها بموضوعة سفرهن. فالذي يدخل إلى المعرض، سائلاً عن علة هذا المعرض، لا بد أن يغض الطرف عن سؤاله، مكتفياً بملاحظة الرحيل والهجرة فيه.


لا يساوي معرض "تانيت" بين عنوان الأنوثة وموضوعة السفر. لكنه، حين لا يقدر على شرح سبب الأول، يذهب إلى حرف الإنتباه نحو الثانية. ففعلياً، لماذا يجاهر بجمعه أعمالاً تعود إلى فنانات طالما أن المشترك بينها ليس أنهن نساء بل إنهن يسافرن فقط، وذلك، في حين أن هذا المشترك لا يشكل ميزةً، أو سمة، تخصهن دون أغيارهن. أي أنه ليس، وبحسب قاموسه، أنثوي؟ الجواب على هذا الإستفهام هو أن ربط "تانيت" للعمل الفني بالهوية البيولوجية، ومعها، نعتها الثقافي، لا أساس له سوى الإعلان بأن ثمة نساء ينتجن فناً في البلاد، وهن -تخيلوا!- يسافرن أيضاً! أما ما يعنيه هذا الإعلان، فهو القول: أنظروا، ما عدنا بطريركيين البتة، وها هو الدليل أمامكم.

غير أن هذا القول، الذي اعتمدته معارض كثيرة قبل معرض "تانيت"، لا دقة فيه، يقوم على نقيض ما يدعيه. ذلك أنه بطريركي بطريقة أخرى، بطريقة تشيد بيت طاعة جديداً، حيث يجري جمع الفنانات على أساس هويتهن البيولوجية، وعند الإخفاق في ربطها بأعمالهن، ينطلق التصور الشائع عنهن كعاجزات، قبل محو عجزهن هذا بأي فعل، كالسفر مثلاً. بيت الطاعة الجديد؟ تجميع النساء اللواتي يمارسن الفن في مكان واحد، الإشارة إلى أنهن إناث، ثم الإستناد إلى المنظور المسيء لهن، وزعم أنهن، وبأعمالهن، تحررن منه. في الواقع، المشترك بينهن هو اعتقالهن في هذا البيت، الذي، وأياً كانت دعايته النسوية، يبقى رجاءً للإمتثال.


قبل فترة، أطلق عدد من الفنانين عريضة "لسنا متفاجئين" بعد الكشف عن تحرش نايت لاندسمان، ناشر مجلة "آرتفوروم"، بتسع نساء من العاملات في مجال الفن. تحدثت هذه العريضة عن القمع المفرط للنساء في ذلك المجال، "فالعديد من المؤسسات والأفراد الذين يتمتعون بسلطة في عالم الفن يروجون لخطاب النسوية والإنصاف من الناحية النظرية، وغالباً ما يستفيدون مالياً من هذه الادعاءات الواهية بالسياسة التقدمية، بينما هم في الواقع يحافظون على المعايير الجنسية القمعية المسيئة". وقد يصح، هنا، إدراج ذيوع بيت الطاعة الجديد في سياقه، إذ إنه عمل قمعي من نوع آخر، لا يزاول الأذية الجسدية، بل التنميط التصوري، الذي سرعان ما يؤدي إليها: النساء عاجزات، عندما يمارسن الفن، يجري جمعهن في بيت الطاعة على أساس هويتهن، وعندما لا يمارسن الفن، يجري إذلالهن على أساس الهوية إياها.

على أن بيت الطاعة، ومثلما قدمه "تانيت"، أي بحرف الإنتباه عن ربط الفنانات بالأنوثة إلى تناولهن موضوعة السفر، هو بيت يرجعن إليه بعد تجوال، كما لو أنه محطتهن الأولى والأخيرة. وذلك على الرغم من ذهابهن وإيابهن، الذي ترك أثره، وعلى ما تبدي أعمالهن، في تجاربهن القديرة والمتواصلة. فالسفر، على ما يُمَعيره قانون بيت الطاعة، ليس انتقالاً للتخلص منه، بل للمكوث فيه. كما لو أنه لا يمضي سوى صوبه، وكما لو أنه لا يحصل سوى لتعميره. 

©جميع الحقوق محفوظة لموقع المدن 2024