أصوات المهجر: ألمانيّة رشا.. وشيكولاتة ماهر البلجيكية

شادي لويس

الجمعة 2017/02/17
في كتابه "حشوة الشيكولاتة، تدوينات من تحت القشرة البلجيكية" (صادر بالإنكليزية، 2016)، يتذكر الصحافي المصري ماهر حمود، خلال إقامته في بلجيكا، حينما دق جرس الباب، ولم يكن يتوقع ضيوفاً، ثم سمع صوتاً نسائياً يتكلم بلغة لم يفهمها، ففتح الباب، ربما بدافع الفضول. ألقت سيدتان بلجيكيتيان التحية، "السلام عليكم"، وأكملت احداهما الحديث بلغة كان من المفترض أن يفهمها. إحتاج الأمر بضع دقائق حتى تتضح الصورة، فبعدما ناولته إحداهما كتيباً باللغة العربية، عنوانه "الاستيقاظ"، أدرك أن السيديتين من مبشرات طائفة "شهود يهوه" المتجولات، وإنهما كانتا تتحدثان إليه بالدارجة المغربية، التي ربما لم يكن ليفهمها بأي حال، فعند وصوله إلى بروكسل، واجه ماهر صعوبة في التواصل مع الجالية المغربية لا تقل عن صعوبة فهمه الفرنسية أو الهولندية.

وفي مقابل سردية ماهر حمود الواقعية، فإن بطلة قصة "قيامة الهيبستر"، في مجموعة رشا عباس القصصية "كيف اختُرعت اللغة الألمانية" (صدرت بالألمانية، 2016) لا يدفعها حاجز اللغة إلى سوء الظن بالمرأتين اللتين دقتا بابها، بل إن عدم قدرة البطلة السورية على قراءة دلالات تجهيز سكان برلين لأعياد الميلاد بشكل صحيح، قادتها إلى الاعتقاد بأن المدينة تتجهز لهجوم من "الهيبستر". وبعد حديث فانتازي بين البطلة والمرأتين، ينتهي بإلقاء رفيقتها بماء اللحم عليهما وتهديدهما بعصا الماكدونالدز (التي حتما ستخيف "الهيبستر" النباتيين بالضرورة!)، نكتشف أن السيدتين كانتا مبشرتين متجولتين من طائفة "شهود يهوه".

يقدم كتاب ماهر حمود، الذي يصنّف على حدود السيرة الذاتية وكتابة الرحلات الصحافية، ومعه مجموعة رشا عباس القصصية الساخرة، نموذجاً لأحد التيارات التي ما زالت في طور التشكل بين أصوات أدب المهجر. فالكتابان تربط بينهما وقائع مواجهة زائرتي "شهود يهوه"، لكن ثمة ما هو أكثر من ذلك. ففي لعبها على موضوع اللغة، في الكثير من قصص المجموعة التي يحمل عنوانها إشارة إلى اللغة الإلمانية والتي تبدو سبيل بطلات وأبطال القصص للإندماج في مجتمعهم المضيف، وفي الوقت نفسه هي عائق، تنتقم رشا طوال الوقت، مرة بالسخرية من قواعد اللغة الألمانية، ومرات من طرق تدريسها، وحتى من محاولات بطلتها لتعلمها. لكن مركزية اللغة لا تتوقف عند سردية الكتابين، ومضمونيهما، بل الأهم هو لغة الكتابة في الحالتين، والتحايل على عوائقها.

كتبت رشا مجموعتها بالعربية، قبل أن تترجم وتنشر بالألمانية أولاً، وبعد أشهر نشرت بالعربية. فيما نشر ماهر بالإنكليزية، التي إعتاد على الكتابة بها أثناء عمله في الصحافة المكتوبة بالإنكليزية في مصر. ويبدو أن جمهور مجموعة رشا، هم قراء الألمانية وبشكل أقل العربية، وجمهور كتاب ماهر الذي يكتب عن بلجيكا ومصر بالأساس، وبالإنكليزية، يبدو أكثر إشكالية، وعصياً على التحديد، وهو أمر لا يمكن الجزم إن كان تقييداً للكتاب أو العكس.

لكن الكتابة بلغة المهجر أو بلغة وسيطة ليست أمراً جديداً. فمنذ مطلع الخمسينات، تبلور تيار واسع من كتابات مهاجري المغرب العربي، والذين كتبوا بالفرنسية والعربية أيضاً، لكن كتاباتهم الفرنسية، كان جمهورها غير مقتصر على مجتمعات المهجر، بل ضمّ قطاعات واسعة من قرّاء الوطن الأم الذين سمح تعليمهم الفرانكوفوني باستهلاك كتابات المهجر أيضاً. ومنذ مطلع التسعينات، عاد للظهور تيار من كتابات العرب الأميركيين المولودين في الولايات المتحدة، باللغة الإنكليزية، والتي تناولت موضوعات تتعلق بالأجيال المتأخرة من الجالية العربية، وكان جمهورها في معظمه هو مجتمع المهجر تحديداً. ففي مقابل مثالَي أدب المهجر المغاربي بالفرنسية، وأدب الجالية العربية الأميركية بالإنكليزية، تنشر رشا بلغة البلد المضيف والتي لا تتقنها كفاية، فيما ينشر ماهر بلغة، لا هي لغة البلد المضيف ولا هي لغة وطنه الأم. يكتب كلاهما أيضاً من بلدين لا تربطهما أواصر لغوية أو ثقافية مشتركة بموطنيهما، على عكس الحال بين فرنسا والمغرب العربي. ولا ينتمي الكاتبان، حديثا الوصول إلى بلدي المهجر، إلى جالية مستقرة في البلدين، كما هي الحال في كتابات الأميركيين من أصول عربية.

لكن، وإن بدت مسألة اللغة والجمهور المستهدف، أمراً هامشياً، فإن الموقع الذي يتخذه كل من الكاتبين يبدو جديراً بالإهتمام. ففي سياق سرده لتجربة قضاء ليلة رأس السنة في شوارع لندن، يكتب ماهر: "لم أفهم أبداً ما رأيته في تلك الليلة، لكني أشعر بالإمتنان كوني رأيت وجوهاً عديدة لأوروبا، لا نعرفها عنها في "الشرق". أشعر وكأني "مستغرب"، وأن أدوار البحث الأنثروبولوجي قد تم تبادلها أخيراً. لمرة وحيدة لم أكن موضوعاً للاستشراق الغربي. وكان هذا شعوراً جميلاً". وفيما تكشف سردية ماهر، صراعه الممتد مع تأطيره في مجتمعه المضيف، بوصفه موضوعاً إكزوتيكياً، فإن كتابه يتحايل على ذلك التأطير، بوضع كاتبه في موقع الهيمنة، وهو يمارس" إنثروبولوجيا عكسية"، بتفحص الموضعات الغربية، بعين الباحث، الذي يؤكد الكتاب مراراً وتكراراً على مؤهلات صاحبها: تاريخ مهني صحافي طويل، بالإضافة إلى أداوت بحثية وتحليلية وفّرتها له دراسته الأكاديمية.

وفيما يبدو كتاب ماهر ناقماً أحياناً، وممتناً في أحيان أقل، فإن الخفة المستحبة التي تصاحب السخرية في مجموعة رشا القصصية، لا تنفي موقع المتفحص، بل ربما تؤكدها. فرشا لا تكتفي بتفحص اللغة الألمانية، والعادات الإجتماعية في مجتمعها الجديد، وثقافة الأندرغراوند، ومفاهيم الفن فيه، وظروف السكن هناك. بل تتجرأ على السخرية منها، وتسيء تفسيرها عمداً. فهي، وبينما تتفحص قواعد الألمانية وتلعب بها، لا تشبه إنثروبولوجيي ماهر الغربيين، بل تشابه باحثي اللغويات الأوروبيين في القرون الوسطى الذين فسروا لغات الشرق ودرسوها عبر تدجينها قسراً داخل قواعد اللاتينية واليونانية التي يعرفونها.

لا يخلو كتابا رشا وماهر من إحالات إلى الشخصي، والحنين إلى الوطن، وأزمة الهوية والإندماج. لكن انشغالهما الأساسي يبقى في فحص مجتمعيهما المضيفين، والآخَر، مخاطبَين جمهوراً ربما هو موضع بحثهما وسخريتهما ونقمتهما وأيضاً امتنانهما. يتشارك رشا وماهر مع موجات سابقة من تيارات أدب المهجر في الكثير من الخصائص، لكنهما أيضاً يقدمان نموذجيهما الفريدين، في إطار السياقات المغايرة للهجرة العربية إلى الغرب، بعد الثورات العربية، وإمكانات العولمة وقيودها. والأهم، أنهما يقدمان إجابة على أسئلة موت أدب المهجر، بنفيها، وتأكيد تنوع أصواتها وثرائها.
 
©جميع الحقوق محفوظة لموقع المدن 2024