زياد دويري والصحافة البوليسية

روجيه عوطة

الإثنين 2017/09/11
يبدو أن ثمة خطاً صحافياً مستقوياً في بيروت، من سماته الأساس أنه بوليسي، بحيث يبدأ بمقالة وينتهي بالدعوة إلى الانتقام. فقبل أيام من عودة المخرج زياد دويري إلى لبنان، لإطلاق عروض فيلمه الجديد "القضية 23"، وقبل أيام من مصادرة الأمن العام جوازي سفره، اللبناني والفرنسي، في المطار، وقبل أيام من مثوله أمام المحكمة العسكرية، بتهمة العمالة مع العدو الإسرائيلي، نشرت إحدى الصحف مقالةً تدعو إلى "تصفية الحساب معه"، وذلك، لكي "يعتذر" عن كونه "أبو طاقية الليبرالي"، مخرج "الفيلم الإسرائيلي"، أي فيلمه "الصدمة" الذي صوره في فلسطين المحتلة. وعلى إثر هذه المقالة القديمة-الجديدة، التي تخبر، وعلى عادة تهويلية بائسة، عن "ظرف سياسي دقيق"، تمر به البلاد، انطلقت معاقبة دويري.

ما عادت المسألة الآن تقتصر على معالجة مشكلة التطبيع بأنواعه المختلفة مع العدو، والتي تستحق نقاشاً وفقهاً على كافة الصعد، أكانت قضائية أو غيرها، وليس الإكتفاء بالتعاطي معها بمنطق التخوين والتكفير، الذي يقوم بردود الأفعال الضعيفة، حتى لو كانت نبرتها مرتفعة وحادة. ما عادت المسألة تقتصر على ذلك البتة، بل تعدته إلى موقع الصحافة أيضاً. فأن تحض مقالة ٌ "ثقافية" جهازاً أمنياً على الإنتقام من مخرج سينمائي، وعلى "تصفية الحساب" معه، فهذا يشير إلى أن صحافتها قد تحولت إلى عين بوليسية، وأنها وجدت دوراً لها، وهو الإشارة إلى من تعتبرهم مجرمين خطيرين، والذين شاءت الصدف أن يكونوا، في الوقت نفسه، فنانين. وعلى هذا النحو، وبتحولها إلى مخبرة، إلى واشية، تسيء هذه الصحافة-العين البوليسية إلى حرية الصحافة على العموم، بحيث تساويها مع التجسس على أهل الفن والثقافة لنقل معلومات عنهم إلى ما تفترضه جهة معنية بهم، معنية بالتحكيم في أمورهم وشؤونهم وأوضاعهم. إذاً، وكلما اتكأت الصحافة على خط العين البوليسية، الذي جسده التقرير المكتوب بحق دويري على شكل مقالة، ستغدو محركاً من محركات آلة التعسف، التي ستزداد شيئاً فشيئاً رغبتها فيها، وتطمح إلى تركيبها وتسييرها.

لكن المسألة الآن لا تقتصر، أيضاً، على حرية الصحافة التي تهددها العين البوليسية، بأكثر نسخاتها الجرائدية غثاثة، أي بنسختها التجسسية، بل تتعدى ذلك إلى حرية الأمن، مسلكاً وجهازاً. لأنه، ولما تجعله تلك العين طرفاً يتحرك على أساسها، بالإستناد إلى إخبارها ووشايتها، تظهره عاجزاً ومتقاعساً، وتظهره مكبلاً وجاهلاً، لا يدري أن زياد دويري "عميل"، وأنه "أبو طاقية" السينما، سوى بعد سنوات على "عمالته" و"إرهابه". تحول تلك العين البوليسية، الأمن، إلى جهاز مفصول عن مهامه، تحتجزه في دور واحد، وهو أن يقرأ تقاريرها، وأن يصدقها، وأن يرتكز عليها ليزاول عمله. العين البوليسية، ولما تجعل الأمن على هذه الحال، تجرده من حريته، وتصوره متوانياً. وهكذا، تزرع فيه عقدة التأخر، التي، وحين ينطلق منها صوب دويري، يبدو كأنه مضغوط، مكره على دوره في حماية البلاد، وبفعل الإرغام، وبفعل الإلزام، قد يمحو البلاد كي يخففهما. فقصارى القول، أن العين البوليسية، وعندما تواصل تغليظ خطها، تريد من الأمن أن يؤدي دوره بحسب طريقة محددة: حماية البلاد عبر... محوها.

على أن تلك العين البوليسية، ولكي تغري الأمن للتحرك على أساس تقريرها، تفتح له سياقاً بعينه، وهو سياق "الظرف السياسي الدقيق"، أي جو مكافحة الإرهاب، أو جو المتفق على كونه "إنتصاراً وطنياً": فهل تبغي أيها الأمن أن تنتصر أيضاً؟ إذاً، خذ وتغلب على هذا المخرج، تخيله "أبو طاقية"، وأنه "داعشي"، وأنه نزل من الجرود، ولم يأت من المطار، خذه وانتصر، علّك أنت أيضاً تربح موقعاً في جو الإنتصار. هذه العين البوليسية تجد في الأمن طرفاً خائراً، وها هي تهبه "عصابة إرهابية"، مؤلفة من مخرج، لينتصر عليها. وذلك، كسبيلٍ، لا إلى الإنتصار فحسب، بل إلى الإنخراط في الجو الذي يصقل حدقة تلك العين.

فإذا لم يقرأ الأمن تقريرها ويعمل على أساسه، ستحثه على تذكير نفسه بأنه مهزوم، وبأنه فوّت فرصة الإنتصار. لا تزرع فيه تلك العين عقدة التأخر الوهمي فقط، بل حاجة وهمية أيضاً، أي الحاجة إلى أن يصبح طرفاً منتصراً. فلما يسحب الأمن جواز السفر من زياد الدويري، ولما يجره إلى المحكمة، لا يفعل ذلك كأنه يقوم بدوره، كأنه يحقق في تطبيع المخرج مع العدو، بل كأنه يحقق إنتصاراً حصرياً. العين البوليسية لا تريد من الأمن أن يؤدي دوره بتاتاً، بل أن ينتصر، وفقط أن ينتصر كيفما كان، يعني، وبعبارة واحدة، أن يخضع لإرادتها وسلطتها، كما لو أنها دولة "إعلامية".

في المحصلة، لا يبغي ذلك الخط الصحافي المستقوي أن يطرح مسألة زياد الدويري التطبيعية، بل يريد إعطاء معنى آخر للصحافة، بوصفها كتابة تقارير طامحة إلى تركيب وتسيير آلة تعسفية، ومعنى آخر للأمن، باعتباره جهازاً لا يقوم بمهام منوطة بحماية البلاد، بل كجسم إنتصاري لا أكثر ولا أقل. العمالة ليست وجهة نظر، هذا بديهي ولا حاجة للتأكيد عليه. لكن الوشاية والتجسس ليسا كذلك أيضاً، وإلا فثمة تهديد لما تبقى من حقوق وحريات في لبنان، كما أنه تغذية للإنتكاس التطبيعي نفسه. فذلك الخط المستقوي يكون مشاركاً في إنتاج التطبيع بطريقة مواربة.
©جميع الحقوق محفوظة لموقع المدن 2024