"اسطنبول الحمراء".. عودة الرواية التركية من المغترب

أيهم سلمان

السبت 2017/07/15
بعد غياب دام عشرين سنة، يعود المخرج التركي الإيطالي فرزان أوزبيتيك إلى موطنه، ليطلق فيلمه الجديد "اسطنبول الحمراء"، عن رواية بنفس الأسم، كتبها المخرج نفسه باللغة الإيطالية، قبل أن يقرر تحويلها إلى فيلم، يعود من خلاله إلى السينما التركية، مستعيناً بنخبة نجوم الشاشتين الصغيرة والكبيرة.


على غرار صاحب الرواية والفيلم، يعود الروائي المنقطع عن عالم الأدب، إلى مدينة هجرها قبل سنوات خلت، إثر حادثة غيرت مجرى حياته وزوجته، عندما فقدا طفلهما الوحيد. فقرر كل منهما السير في طريق. هاجر "أورهان" إلى لندن واعتزل الكتابة، حتى اللحظة التي دعاه صديقه القديم "دينيز" إلى اسطنبول، لمساعدته في وضع اللمسات الأخيرة على روايته الأولى، وهو المخرج السينمائي العالمي، الذي قرر خوض غمار الكتابة على غرار "أوزبيتيك" أيضاً!

يبدأ أورهان بالتعرف على شخصيات الرواية، وهي شخصيات حقيقية من محيط "دينيز". بداية يتعرف إلى "نوال"، التي وصّفها صديقه الراوية بدقة متناهية، حيث يسهل التعرف عليها منذ اللقاء الأول. وهذا ما حدث مع أورهان تماماً، إذ وجد أمامه شخصاً مألوفاً، وكأنه يعرفه منذ زمن. ليس هذا وحسب، إنما تبدو مشاعره تجاهه في مرحلة متطورة، أبعد من التعارف والصداقة.

بعد سهرة طويلة، استعاد فيها أورهان عاداته المنسية حتى الثمالة، يختفي صديقه (كاتب الرواية) صباح اليوم التالي، ولكن على ما يبدو، ليس هذا أمراً استثنائياً في حياة المخرج والكاتب المحدث، والمعروف بغرابة الأطوار. فتمضي الرواية هنا في غياب صاحبها، ويظهر "يوسف"، أحد شخصيات الرواية، ولكن الغريب هنا أن كاتبها اختار له مصيراً مختلفاً عن الواقع، وضمن الأحداث مشهداً لجنازته!

هذا ما يثير شكوك أورهان وريبته، في اللحظات التي يتورط فيها بشكل أعمق مع الشخصية الأخرى، نوال، جزء من تورطه في الرواية التي وجد نفسه فجأة بداخلها، دون أن يمتلك خيار الانسحاب. يقع رسمياً في غرام الفتاة التي عرفها من خلال الورق، كما وقع كاتب الرواية قبله، ثم يفاجئ بأن هناك ما سبقهما إليها. زوجها، الشخص الذي لم يعرف بوجوده سابقاً. كانت تلك محاولة أورهان الأخيرة لتجاوز ماضيه، بعد فشلها قرر مواجهته، أو أنه في الحقيقة كان يتحضّر له منذ أن قبل العودة إلى خزان ألمه، اسطنبول.

"دينيز" غائب ليس ميتاً ولا حياً حتى الآن، فلم يكن هو الجثة التي عثر عليها في المضيق، ولكن نبوءته بموت "يوسف" تتحقق، ولم نعرف إذا كان سبب الوفاة انتحاراً كما جاء في الرواية، ولكنها كانت بعد أن باح له "يوسف" بسره و"دينيز". سرّ اسطنبول، هو بين ضفتين داخلها، إذا نجحت في عبور مضيقها من ضفة إلى أخرى تقبلتك، وإذا فشلت لفظتك. هذا المفتاح الذي سلمه "يوسف" لمن يتابع كتابة الرواية.  

ينوب أورهان، أو يتابع مع بدأه صديقه. أكمل روايته، أغرم بذات الفتاة ولم يحصل عليها، شغل غرفته في غيابه، حمل اسمه في جنازة أعز أصدقائه،  وضع الماء لكلبه النافق منذ سنوات، كما كان يفعل هو تماماً قبل اختفائه، وأخيراً قرر خوض تحدي عبور المضيق، نيابة عنه، أو اكمالاً لما بدأه، وانتهي كل شيء هنا.

اختار "اوزبيتك" لروايته ولفيلمه هذه النهاية الضبابية، فلم يحل اللغز الذي بنى عليه كل شيء، إنما اكتفى بتقديم بعض المفاتيح، ليعتقد القارئ أو المشاهد ما يشاء. لم تكن سلسلة الأحداث هنا أهم شيء بالنسبة له، ولا الإجابة عن أسئلة يوحي بأنه قد طرحها منذ البداية، بل عمد إلى إخفاء بعض التفاصيل، ليفسح المجال لخيال الرواة المحتملين، ولكن وضع توصيفه المتماسك العميق لاسطنبول. تلك المدينة الحمراء التي تحتضن ضفتين. ليؤكد بما لا يدعو للشك، ذاتية روايته، ويختار لنفسه مكاناً فيها أيضاً بشكل من الأشكال، هو ذاته المخرج العالمي، وهو ذاته صديقه المنقطع عن اسطنبول لسنوات، يعود إليها، ويخوض فيها التحدي الذي فرضته عليه بشكل من الأشكال.


(*) الفيلم من بطولة عدد من نجوم الشاشات التركية، أبرزهم "خالد ايرغينش"، "نيجاة ايشلر"، "طوبا بويكوستون"، "ميهميت غونسور"، ويعرض حالياً في دور السينما التركية، تزامنا مع مشاركاته في مهرجانات أوروبية، ومن المحتمل أن يدبلج قريباً إلى اللغة العربية، حين يصبح متاحاً للعرض التلفزيوني، وذلك للعشبية الكبيرة التي يحظى بها أبطاله في المنطقة العربية، بسبب اعمالهم التلفزيونية المدبلجة.

©جميع الحقوق محفوظة لموقع المدن 2024