نورا أمين لـ"المدن": النسيان حيلة.. ولا ممحاة للألم

إيهاب محمود الحضري

الثلاثاء 2017/09/12
امرأة أربعينية تسكن وحيدة في إحدى شقق القاهرة، باعت كل ما في الشقة من أثاث، باستثناء صندوق خشبي قديم، تؤجل فتحه إلى أن تأتي لحظة تقرر فيها اختراقه، لتكتشف كراستين لامرأة تحكي تفاصيل وأسرار تقف أمامها البطلة مصعوقة، إذ تتطابق التفاصيل!

في روايتها الجديدة "ساركوفاج" والصادرة عن دار العين بالقاهرة، تحكي نورا أمين عن امرأة أنفقت أربعين عامًا في هذه الدنيا، امرأة بلا اسم، تعثر على كراستين في صندوق قديم تجد فيهما حكايات عن أبيها، واعترافات لأمها، وتلميحاً إلى أخٍ مات وهو نطفة في رحم أمه، كل هؤلاء بلا أسماء، ولا أحداث هنا لتتصاعد أو تتقاطع. الزمان هو 25 يناير2017، والمكان شقة في القاهرة. تبدو نورا وكأنها كتبت الرواية على غير تخطيط منها، جلست لتكتب فانسابت الأفكار والكلمات، حيث تتشكل الرواية أثناء كتابتها، هذه الكتابة التي تأتى كفعل مقاوم للنسيان، والموت أيضًا. 
هنا حوار أجرته معها "المدن"..

- الرواية تحكي عن بطلة لا اسم لها تتحدث عن وحدة قاسية، عن أب مات مقهورًا، وأم دفعها العشق إلى الخيانة. هنا لا أبطال حقيقيين، ولا شخصيات ولا أحداث، كما أن المكان ينحصر في شقة في القاهرة، والزمان مشوش أيضًا، على عكس "الوفاة الثانية لرجل الساعات".. هل خططتِ للكتابة على هذا النحو أم جاء الأمر على غير تخطيط مسبق؟

* لم أقم بأي تخطيط لأحداث الرواية، فقط توحدت مع لحظة فارقة في حياتي على المستوى الشعوري، وأنتجت تلك اللحظة تدفقاً في الكتابة. عادةً أقوم بالتخطيط وتكوين بنية النص قبل الشروع في الكتابة، وأعرف جيداً مسار الأحداث وعلاقات الشخوص. أما هذه المرة فقد تركت قلمي على سجيته. هناك حرية كبيرة في هذه الطريقة في الكتابة، لكنها في رأيي ليست اختياراً، هي طريقة تملي وجودها بنفسها، ولا تطرح نفسها للمفاضلة بينها وبين طرق أخرى. كل ما على الكاتب في هذه الحالة هو الاستسلام ومواصلة الطريق. لذلك فالتحدي الأكبر في "ساركوفاچ" كان مواصلة الكتابة بلا انقطاع ولساعات طويلة يومياً، كي لا ينقطع التدفق، وكي لا تختلف الحالة الشعورية لذلك المونولوغ الممتد.

- تؤكدين في الرواية أن "النسيان لا وجود له".. فهل تؤمنين بأن النسيان محض سراب ولا أساس له؟

* أعتقد أن النسيان أداة نفسية تساعد على المداواة، لكن الأحداث والمشاعر التي نود نسيانها تظل في داخلنا، في مكان ما، تختبيء بقرار منا، في الذاكرة الشعورية، في العقل الباطن، في الذاكرة الجسدية. تترك الأشياء التي نود نسيانها -أو التي ننساها بالفعل- بصمات في كل مكان، ومسار حياتنا نفسه نتاج لتلك الأحداث التي نود نسيانها، وبصمة لها. أعتقد أن المحو لا وجود له، ربما النسيان كفعل، يمكننا العودة عنه بالتذكّر، لكنه ليس المحو، رغم اعتقادنا الشائع بأن النسيان محو.

- وهل يمكن للنسيان أن يمحو أثر أحدهم نهائيًا من حياتنا؟

* لا أعتقد بإمكانية ذلك، لكن من الممكن طبعًا أن ننكر أثر الشخص، أو نتلافاه، أو يتلاشى حضوره من ذهننا، لكن هذا النوع من محو الأثر، حيلة لا يمكنها أن تنجح سوى بالإنكار والتظاهر.

- ما هو النسيان إذن؟

* هو تلك الحيلة التي نستخدمها كي نضع خلف ظهورنا ما يثقل علينا، حيلة نساعد بها أنفسنا كي نتخفف، ثم نمضي إلى الأمام بقدر أقل من الألم.

- تتحدثين عن لذة الكتابة التي هي ارتداد للزمن في تصوّرك، وتعبّرين عن حبك للكتابة على الورق، ونفورك من الأخرى التي تستدعي اللاب توب للكتابة.. ما الذي تجدينه في الورق في ما يخص فعل الكتابة، ولا يتوافر في الكتابة الإلكترونية إن صح التعبير؟

* كتبتُ "ساركوفاچ" بالقلم الأسود، في كراستين، واحدة عتيقة والأخرى حديثة. كانت مستحيلة كتابتها على الكومبيوتر، فالكتابة باليد تربط جسدياً وذهنياً، بين الأفكار والعبارات التي تطرأ في الرأس، وبين اليد التي تسطرها على الورق. الكتابة باليد تصنع امتداداً بين الخيال الذهني وبين الفعل الجسدي لحركة الأصابع واليد على الورق، وتبدو تلك الحركة كأنها تذرف الحروف، كذروة لذلك الاتصال بين العقل والخيال وبين جسد الكاتب الذي يتمثل ذلك كله ويخرجه في شكل الكتابة اليدوية، والتي هي بمثابة رسوم يراها الكاتب وهي تتشكل أمامه لحظياً على الورق فيكتمل تمثله للخيال ويتحول إلى نص خارج من جسده، وخارج عنه. أما الكتابة الإلكترونية، فتخلق وسيطاً بين الجسد والكتابة، الوسيط هو الكومبيوتر، وهذا الوسيط يخرق حالة التواصل الجسدي الذهني، ويبتر ذلك الفعل شبه الطقسي، فتفقد الأصابع اتصالها بالحروف، وعندما تظهر الكلمات على الشاشة تكون هناك قطيعة ما قد حدثت مع الجسد الذي صار مجرد جسر بين الخيال والشاشة، أما الشاشة فأصبحت هي التي تتولى عملية تجسيد الكلام في شكل حروف لم تسطرها وترسمها اليد، ولا توجد فيها تعاريج البصمة الشخصية والنفسية للكاتب، لا توجد فيها بدائية العلاقة مع فعل التعبير.

- تبدو الرواية كأنها كتابة في مواجهة الموت، الموت المعنوي، كتابة في مواجهة النسيان، تستخدمين الكتابة كذاكرة أو وثيقة شخصية...

* نعم، أحب هذا الاتجاه. هو الاتجاه نفسه الذي بدأته في روايتي الأولى "قميص وردي فارغ"، وظهر بشكل أكثر وثائقية في"الوفاة الثانية لرجل الساعات" التي احتوت على جزء كبير من تاريخ عائلتي وكتبتها عقب وفاة والدي مباشرة.

- وما الرواية عندك؟

* لا أعرف رداً على هذا السؤال. أظن أن الرواية هي أي شيء، طبعاً الرواية كجنس أدبي لا تحتاج مني تعريفاً أو شرحاً، أما الرواية التي نعيشها أو نشهدها كجزء من سرديات حياتنا فهي الرواية الحية، الرواية التي نجدها في كل شيء، في حياتنا وعائلاتنا، وقصص حبنا، وفي موت أحبائنا، ومواقف طفولتنا، وعناء حياتنا اليومية، في كل مظاهر وجودنا على قيد الحياة رواية ما. فبعد كل ما عرفته البطلة تقرر الصفح عن أمها.. بدا لي الأمر غير معقول واقعيًا...
أراه معقولاً جداً، بل ضرورياً، كي تستمر الحياة وكي نحتفي بوجودنا فيها، لا بد من المغفرة. الحياة قاسية للغاية ومقيتة عندما نعيش كي نجلد الآخرين. لا بد أن نتقدم، ولكي نتقدم ونعيش علينا أن نصفح عمن نحبهم، فصفحنا عنهم هو منحة كبيرة لأنفسنا، لأننا نزيل عنها ذلك العبء الثقيل الذي يشبه العداء والكراهية، إننا بذلك نعفو عن أنفسنا من الحياة تحت وطأة الكراهية.

- الوحدة حاضرة بقوة، تبدو كأنها البطلة والمحرك للأحداث.. هل أنتِ شخص يحب الوحدة أم تخافين منها؟

* الأمر لا يتعلق بي أو بحياتي، بل يتعلق بالموضوع والقصة التي أكتبها. في "ساركوفاچ" تملك الوحدة حضوراً قوياً لأسباب خاصة بالموضوع، وبشخصية البطلة، بل تكاد الوحدة أن تكون شخصية داخل الرواية. كان لا بد من الوحدة لأنها تفترض إخلاء الوسط الذي تحتله الشخصية، ومن ثَم خلقها لعالم بديل عن طريق الكتابة والبحث في صندوق الأسرار، فتواجه الماضي والذات وذاكرة الفجيعة.

- لماذا اخترتِ الذكرى السادسة لثورة يناير لتبدأ الحكاية؟

* تزامنت الذكرى مع لحظة الكتابة، وكانت تعني لي الحنين للحظة الوثاق الجماعي والقدرة على الفعل، في مقابل الوحدة والهشاشة والعجز الذي تحياه البطلة. كانت المفارقة نموذجية.

- انقطعتِ سبع سنوات عن النشر.. هل كنتِ متوقفة عن الكتابة أيضًا؟

* لم أنقطع أبداً عن الكتابة، ربما انقطعت عن النشر لكن ليس عن الكتابة. في يناير 2011 صدر لي "النص" عن دار "يدوية" في الإسكندرية، وهو محاولة باسلة للكاتب والمسرحي ماهر شريف لإصدار كتب مصنوعة يدوياً ومكتوبة بخط اليد، بعضها يُوزع كأصول والبعض الآخر استنساخ. للأسف، لم ير أحد هذا العمل الذي بذل فيه ماهر جهداً ضخماً وأصدر معه أعمالاً أخرى على المنوال نفسه. حولتُ "النص" إلى إصدار سمعي بصوتي، وبمصاحبة المؤلف الموسيقي نادر سامي على البيانو، ووُزع مجاناً على أقراص مدمجة، وهو متاح أيضاً في ساوند كلاود. وبين 2012 و2014، كنتُ أكتب النصوص المسرحية للعروض التي قدمتها لفرقتي "لاموزيكا المسرحية المستقلة"، ومنها الدراماتورجيا التي قمتُ بها لـ"عدو الشعب" لهنريك إبسن، وحصلت على جائزة أفضل دراماتورجيا من المهرجان القومي للمسرح المصري في العام 2013. وفي 2014، أعددت الدراماتورجيا لنص إبسن أيضًا "آل روزمر"، وأخرجته تحت عنوان "بيت النور". وفي يناير2016، أصدرت الهيئة العربية للمسرح ترجمتي لكتاب چولياڤارلي "أحجار من الماء"، وهي الترجمة التي استغرقت سنوات حتى ظهرت إلى النور. وفي 2016 أيضاً، صدر لي "تهجير المؤنث" بالإنكليزية (برلين) وبالعربية (آفاق)، وكذلك ترجمتي لنص آني إرنو "البنت الأخرى" في دار أزمنة في الأردن.

- ماذا تكتبين الآن؟

* أكتب عملاً عن حرفة التمثيل، وهو موضوع كثيراً ما ناقشته في مقالاتي النقدية والدراسات البحثية التي قدمتها مؤخراً، والتي استفدت فيها من خبرتي المزدوجة كممثلة وكباحثة. لكنه سيكون العمل الأول المكتمل لي في هذا الاتجاه، وأتمنى أن أتمكن عبره من التطرق لقضايا ثقافية واجتماعية متجذرة في ممارساتنا التمثيلية وفي المظاهر المرتبطة بالتمثيل كحرفة وفن.
©جميع الحقوق محفوظة لموقع المدن 2024