حقيبة هبة حلمي: السرد كالرسم كمساءلة الذات

أحمد شوقي علي

الأربعاء 2017/09/13
يكتب الموسيقي نوتة للحن جديد، ليس لأنه يجيد العزف، وإنما لأنه يفكر موسيقيًا، فإذا حدث وقرر ذات يوم أن يترك التلحين إلى الرواية فإنه سيكتب نغمة سردية. ويفعل الروائي الأمر ذاته معكوسًا، وكذلك سيفعل الفنان التشكيلي. ولا تكتب هبة حلمي قصصًا أو تؤسس في كتابها الأحدث "بنت في حقيبة"(*) لنص روائي، بل ترسم بورتريهات لذاكرتها السردية.

فالنصوص الـ63 التي يضمها الكتاب، كان يمكن تطويرها لتتحول إلى رواية، لكن حلمي التي تحترف الفن التشكيلي، أرادت أن يخرج عملها الجديد في هيئة تقترب -إلى حد كبير- من نسق البورتريه الزيتي المسيطر على معرضها التشكيلي الأخير "Old School"، والذي ضم بورتريهات تحمل في غالبيتها ملامح وجه الفنانة نفسها في مراحل عمرها المختلفة، أو تمتزج ملامحها بملامح آخرين، أو تصور عابرين مروا في حياتها وارتبطت بهم عاطفيًا، حسبما يوحي الطابع الذاتي للمعرض. ولا تبتعد نصوص "بنت في حقيبة" كثيرًا عن تلك التيمة، حيث تبدو بمثابة استكمال سردي للموضوع نفسه، لا سيما أن الفنانة بدأت الكتابة خلال تحضيرها للمعرض واستكملتها بعد انتهائه.

وتعيد الكاتبة استخدام تقنية المزج ذاتها داخل نصوصها، حيث تتنقل كثيرًا بين ضميري الغائب والمتكلم حين تشير إلى بطلتها/ذاتها داخل نصوصها. لكنها غالبًا ما تستخدم كلاً من الضميرين على حدة وبشكل منفصل عبر النصوص المختلفة، ولا يبدو أنها ترتكن في ذلك إلى عامل الزمن مثلاً، كأن تشير بالغائب إلى طفولتها، وبالمتكلم إلى "أنا/ها" الحاضرة. بل قد تستخدم الضميرين في نصين يتعرضان للفترة الزمنية ذاتها، وهو الأمر الذي يوحي بأن الكاتبة استخدمت ضمير الغائب لتشير إلى أنها كانت في تلك النصوص امرأة/فتاة أخرى غير التي صارت عليها، بينما تستخدم المتكلم في النصوص التي يضم سياقها السردي أحداثًا، شكلت وعيها وساعدتها في اكتشاف ذاتها الحقيقية.

وتستخدم هبة حلمي لغة تحاكي السرد المحكي، إذ يشبه تركيب جملتها السردية، تركيب الجملة العامية، بكل ما يحتمله هذا النسق السردي من ركاكة لغوية وحميمية وبساطة في الوقت ذاته، وهو الأمر الذي لا يمكن معه اعتبار البناء اللغوي للجملة السردية ذات بلاغة في شكلها المفرد، وإنما تكمن بلاغة النص باكتماله؛ كما الأمثولة التي تكتمل فلسفتها وتكتسب بلاغتها مع جملتها الأخيرة، لكنها تستمد، في الوقت نفسه، تأثيرها الجمالي مما تقدم عليها من أحداث، بحيث يصعب فصل أي منهم عن الآخر.

وتلعب الصورة دورًا رئيسيًا في تكوين النصوص. فغالبًا ما يبدأ النص بمشهد قد يرتبط أو لا يرتبط بأحداثه التالية، لكنه يبدو بمثابة العلامة التي يستدل بها ذهن الكاتبة على ذكرياتها. وبالرغم من أن ذلك المشهد، والذي غالبًا ما يوحي بسير النص في سياق مختلف عما يؤول إليه، قد يحبط القارئ أحياناً، إلا أنه لا يصيبه بالملل. فالقصص التي يضمها الكتاب لا ينقصها التشويق، ويمكن اعتبار النص مذكرة عن تاريخ الطبقة الوسطى المصرية التي تكونت بفعل الإصلاحات الاقتصادية لثورة يوليو، وكوّن جيلها ثرواته عبر الارتحال إلى دول النفط في العصر الساداتي وما تلاه. فبطلة النصوص ابنة طبيبين ارتحلا إلى جدّة-السعودية في نهاية السبعينات، وارتبطا بعلاقات صداقة مع بعض الأمراء. لذا، فإن الكاتبة ترصد الشكل الحضاري الذي كانت عليه المملكة السعودية أثناء تشييد بنيتها التحتية، حين "كانت في جدّة آنذاك ثلاثة شوارع رئيسية "مسفلتة": طريق مكة وطريق المدينة وطريق المطار الذي كانت غرفتنا في المستشفى تطل عليه من شرفتها. أما بقية الطرقات، فيكاد معظمها أن يكون ترابيًا. عندما يصف لك أحدهم عنوانًا، "يقول إحود يمين بعد الشجرة الكبيرة اللي على الناصية" أو "هتلاقي بوابة زرقا، بيتنا اللي بعدها بعمارتين" وهكذا. أما أصدقاء الفصل الدراسي الفرنسيون فكانوا يرسمون الخرائط".

وكذلك يعرض الكتاب للنمط المتقشف الذي بدت عليه حياة الوافدين للعمل في المدينة السعودية، ولجانب من الحياة الخاصة للسعوديين أنفسهم والذي اطلعت عليه البطلة التي مكنتها وظيفة والديها من حضور عدد من مناسبتهم الخاصة. فنراها تصف عرسًا لإحدى الأميرات، فتقول إن "النساء هنا شبه عاريات. ترى موديلات لفساتين لا تخطر على بال، إبداع حقيقي للكشف عما يقولون عنه هنا "عورات". فستان بفتحة ظهر تمتد حتى الخط الفاصل بين الإليتين مثلًا، فستان من الدانتيل الرقيق جدًا يكشف عن الثديين كاملين، بتدقيق النظر تفهم أن ذلك الذي تتخيل أنه ثدي هو قماش له نفس اللون، تسميه المصريات "لحم الهوانم". لم أعرف بالتحديد ما هذا التوق للكشف عن كل هذه المساحات من الجسد، لكنها معضلات لن أفهمها أبدًا. وفي لحظة ما. لحظة دخول موكب العريس لإهداء الشبكة وتغيير موقع الدبل، موكب تتحدد فيه مواقع الأخوة والأقارب بالصف بصرامة لا يمكن فيه للأصغر عمرًا أن يتعدى الكبير، في تلك اللحظة، تتشح كل نساء القاعة بسواد العبايات. أجد نفسي بفستاني الملون وحدي. فأشعر فجأة أني عارية".

ثمة تواطؤ ما يخلقه الكتاب مع قارئه المفترض، حين يبدو ككرة الزجاج التي يتلصص من خلالها القارئ على حياة هذا الشخص/الكاتب، لكن هذه الرغبة لا تبدو مشينة مع "بنت في حقيبة"، بل مشاركة حميمة لمشاعر الكاتبة المختلفة التي تنتابها خلال الأحداث المتنوعة والشيقة التي يمتلئ بها الكتاب. فهي لا تعرض حياتها الشخصية وكأنها تتخلص عبر البوح من هذه الذكريات، أو تسعى لحفظها من النسيان من خلال التدوين، وإنما تكتبها لتسائل حياتها وتحاورها وتعيد اختبار تجاربها السابقة مرة أخرى.


صدر الكتاب عن دار العين للنشر بالقاهرة.
• هبة حلمي مصوِّرة ومصممة حلي ومصممة غرافيك، قدمت العديد من أغلفة الكتب، كما أصدرت كتابًا في 2013 بعنوان "جوايا شهيد" يرصد تطور فن الشارع أثناء الثورة المصرية. عملت معيدة بقسم تاريخ الفن بكلية الفنون الجميلة من 2002 وحتى 2006، ثم تفرغت للإنتاج الفني الحر، وقدمت معرض بورتريه في 2002 في أتيليه القاهرة، وشاركت في معارض جامعة لندن في العامين 2006 و2007، وقدمت معرضًا للأعمال المركبة في 2011.
©جميع الحقوق محفوظة لموقع المدن 2024