تماثيل الأسد في لبنان... تلك المسلّة الباقية

محمد حجيري

الأحد 2017/09/24
 
العابر عند مستدير السفارة الكويتية في بيروت، لا بدّ أن يلاحظ المسلّة "المنتصبة"، وهي ليست مسلّة اثرية قيّمة ومنهوبة من الآثار الفرعونية المصرية، كما معظم المسلات في بعض المدن الاميركية والاوروبية، بل شيّدتها الجمهورية اللبنانية في زمن رئاسة الياس الهراوي وحكومة رفيق الحريري عام 1998، وكتب عليها "من لبنان إلى الرئيس السوري حافظ الأسد".
 
 والحال أن المسلّة، ربما النصب الوحيد الذي بقي في لبنان من تلك الأنصاب والتماثيل التي كانت تشيّد وتبنى في إطار مدح هيمنة النظام البعثي على لبنان. كانت وطأتها إشارة إلى الاستبداد السوري في لبنان، بدأت بتمثال باسل الأسد (نجل حافظ الأسد الملقب بـ"الفارس الذهبي" والقتيل بحادث سير على ما تقول الرواية) في بلدة شتورة، دشنه وزير الداخلية انذاك ميشال المر في احتفال حاشد في 1 / 10/ 1995، وصار التمثال "محجة" بائسة لغلاة الطاعة والولاء لـ"سوريا الأسد"، وكان يحتفل سنويا بوضع اكليل على قاعدته في ذكرى وفاة صاحبه مع إلقاء الخطب "الرنانة" وبحضور معظم الوجوه النيابية والسياسية وحتى البلدية وبعض "الثقافية" والفنية. واللافت أن التمثال، الذي صممه ونفذه نحات من أصل لبناني يعيش في فلورنسا الايطالية، بلغت تكلفته 300 ألف دولار جرى جمعها من المؤسسات الاقتصادية في شتورة ومحيطها من جانب لجنة انشئت لهذه لغاية، وهذا يعتبر نموذجاً لطريقة الحكم السوري التشبيحي في لبنان، والقائم على دفع الخوات والولاء بالقوة، وهذا لا يعني ان مجموعة كبيرة من اللبنانيين، كانت تمارس انتهازية معلنة في الولاء للبعث، في مقابل فساد مشترك وحتى مناصب مدفوعة الثمن بالمال والدم والانبطاح. والنصب في علم الاجتماع إحدى أدوات الدعاية الجماهيرية. يقول الباحث كنعان مكية في كتابه "النصب التذكارية" نقلاً عن الفيلسوفة الأميركية- الألمانية حنة أرندت إن الدعاية الجماهيرية اكتشفت أن جمهورها على استعداد دائم لتصديق الأسوأ مهما كان منافياً للعقل، وأن هذا الجمهور لا يمانع كثيراً في التعرّض إلى التضليل.

فمن بعد تمثال باسل الأسد، كرّت سبحت التماثيل والانصاب واللافتات واللوحات التذكارية بإسم الاسد (الاب) وابنه "القتيل"، بين اسم مدرسة من هنا وحديقة من هناك، وقاعة في تلك البلدة ومنصة أو مكتبة في هاتيك المدينة. كانت الشطارة على قدم وساق في حب الأسد والبعث وشبيحته، ففي 12 أيار عام 2000 رفعت الستارة عن تمثال الاسد(الأب) عن بوابة بعلبك بعدما انجزته هيئة انماء بعلبك (يا عين على الانماء) على نفقتها بالتعاون مع بلديتي بعلبك ودورس وأحزب وتنظيمات وطنية وإسلامية. وبلغت كلفته الاجمالية 75 ألف دولار وهو الأول للأسد في لبنان من البرونز وطوله أكثر من ثلاثة أمتار، لنتأمل جيداً من كان يبني التماثيل ومن كان يدفع ثمنها؟! وفي 15 تشرين الأول 2000 شيّد تمثال الأسد في حلبا وسط كلمات زعيم المردة سليمان فرنجية والملياردير عصام فارس وغيرهما، وكلها تتحدث عن "سوريا الأسد" وروح "القائد الخالد" وتضحيات الجيش العربي السوري لاجل لبنان ودولة المؤسسات ودور اميل لحود في بناء الدولة وسوريا الأسد و"البشار". بدا أن أتباع الأسد في لبنان يقلدون جماعة عبد الناصر في السبعينات، مات الأخير فنصبت تماثيله في بعلبك وقب الياس وبيروت، ومات الأسد فأذعن بعض الممولين لتمويل تماثيله في بعلبك وحلبا وصور وقانا وبلدات لبنانية عدة. كان "انبعاث" النصب الأسدية إشارة إلى موته الجسدي وبقاء اشباحه فوق لبنان، من دون شك أن عهده الطويل "والأبدي" كان مبعث خوف وقسوة ووحشية وصلافة، وهذا لا يعني ان اسلافه بدلوا هذا المسار، بل، كانوا اكثر وحشية في التعاطي الأمني وأقل خبرة في السياسة واستيعاب لبنان ومجرياته وجماعته، وكانت بشائر التمرد على الاسدية في لبنان بدأت في المقالات الصحافية وبعض الأصوات السياسية، وفي العام 2002 وضعت عبوة لتمثال الأسد في حلبا فتضررت قاعدته اضراراً طفيفة، وعثر في مكان الحادث على ورقة تحذر السكان من الوجود قرب مراكز التجمع للقوات السورية.


على أن الحريري (الأب) الذي شُيّدت مسلّة السفارة الكويتية في زمنه، كان اغتياله عام 2005 بداية لاقتلاع تماثيل الأسد من لبنان قبل انسحاب جيشه، ففي 1 آذار 2005، صدرت ردود فعل مستنكرة على الاعتداء على تمثال الاسد في قانا، قال النائب علي خريس "ان الرئيس الاسد يمثل القومية العربية الشريفة والقيادة الرائدة في تاريخ امتنا الناصع". وفي 15 نيسان 2005، ازال الجيش اللبناني التماثيل والنصب التذكارية لحافظ وباسل الاسد من ساحات ومدن الجنوب. "ففي مدينة صور اقتلع النصب التذكاري للأسد الاب الراحل، وهو لوحة رخامية حفرت على أحد جوانبها صورة الرئيس الراحل... وكانت "الاحزاب والقوى الوطنية اللبنانية قد رفعته في الساحة، وكذلك رُفع تمثال اخر لباسل الاسد من امام مركز باسل الاسل الذي بناه السوريون "عربون وفاء لأهالي الجنوب"... وفي 16 نيسان 2005، وبحسب ما رصدت جريدة النهار، بعيد منتصف الليل باشرت عناصر المخابرات السورية نزع تمثال باسل الأسد في شتورة من قاعدته وسط انتشار كثيف في محيطه متسلحة برشاشاتها ومستنفرة بحيث لم يسمح للسيارات العابرة بالتباطؤ للنظر. اما الصحافيون فجرى ابعادهم من المكان. وفي اليوم نفسه، ازيل تمثال الاسد من بوابة بعلبك وقيل إنه نُقل الى جديدة يابوس... يكتب خالد حمود، وهو مهندس معماري، عن خطورة تغيير معالم الامكنة بطريقة تمحو الذاكرة الجماعية، لارتباط الذاكرة بالامكنة وصوغها للهوية المشتركة للمجتمعات. معالجاً من الناحيتين الاجتماعية والجمالية، اقامة مجسم "ساحة الوطن" في المكان عينه الذي كان ينتصب فيه
تمثال "باسل الاسد" عنواناً لبطش النظام الامني السوري- اللبناني. يذكر ان المجسم كان قد صمم لانشاء "ساحة الجيش" في ساحة سرايا بعلبك انطلاقاً من رمزية المكان، وجرى نقله الى طريق شتورا– جديتا كبدل من ضائع، بعدما اصطدمت الفكرة برفض "لجنة العمل البلدي" التابعة لـ"حزب الله" اقامة المجسم في مدينة بعلبك وبلدة دورس... وكان لافتاً ايضا ان تماثيل الأسد تحتل واجهة المدن اللبنانية وساحاتها، كتعبير عن احتلال المشهد العام في لبنان، وكتعبير عن ابتذال الحياة العامة من دون أن تحمل التماثيل أي تعابير فنية أو ثقافية، هي أنصاب سياسية الهدف منها اظهار منطق القوة والاحتلال والولاء.

سقطت تماثيل الاسد، وبدأت موجة قتل اركان 14 آذار وصعود تماثيلهم الرمزية التي لها معنى آخر في السياسة، ومن دون شك كانت جزءا من مرحلة صعبة وقاسية في لبنان، (لنا عودة إليها). 
 
 ذهبت التماثيل الأسدية من لبنان، ولكن أصحابها تركوا وديعة اسمها المسلّة عند بوابة بيروت، ولها دلالاتها الفرويدية في المشهد البصري او هي كخازوق في السياسة اللبنانية اذا جاز التعبير، الله اعلم.


(*) هنا حلقة ثانية من ملف التماثيل في لبنان، بعد حلقة أولى عن تماثيل عبد الناصر.
 
 
 
©جميع الحقوق محفوظة لموقع المدن 2024