عودة حليم جرداق: الزمن الموحّد

ميموزا العراوي

الجمعة 2015/12/18
عادة ما تُصنف المعارض الفنية بالإستعادية، عندما تتناول تكريم فنان تشكيلي رحل عن هذا العالم مُخلفاً إرثا فنياً مرموقاً. غير أن المعرض الذي تقدمه صالة جانين ربيز، (بيروت- الروشة) هو معرض استعادي ثمين، جرى افتتاحه بحضور صاحب الأعمال الفنان التشكيلي اللبناني حليم جرداق، الذي يعتبر من رواد الفن التشكيلي اللبناني الحديث. يكفي أن نذكر أنه أول من أستخدم تقنية التوّليف، أو ما يُسمى بالكولاج في اللوحة العربية، حتى ندرك مدى أهميته وأثره اللاحق على تيارات الفن، وعلى كيفية رؤية العمل الفني...

على أن طريق الفنان لم تكن بالسهلة أبداً، خاصة عندما عمد إلى أدخال تقنية الكولاج، التي يستخدم فيها مواد مختلفة، إلى أفق لوحته. وقد تعرّض حينها لإنتقادات لاذعة مفادها، أنه أدخل هذه المواد "الجاهزة" إلى اللوحة كالورق الأسمر غير المُستعمل أو ورق الجرائد لتفادي الرسم وجهد التلوين على حساب كسب الوقت وتقديم لوحة "مٌصنّعة" تعتمد على عناصر اساسية غير ضربات ريشة ألوانه.

لكن من جهة أخرى لفت جرداق في إدخال الكولاج إلى لوحته نظر وإعجاب الكثيرين، لما تميزت خطوته بجرأة وبراعة في اقناع الجمهور بفنّية هذه التقنية التي عرفها الفن الأوروبي في فترة سابقة.

كان أكثر المدافعين عن الفنان من الملمّين والمهتمين بالفن التشكيلي، يرتكزون في آرائهم تلك على براعته في الرسم واسلوبه الخاص الذي تميز به منذ باكورة أعماله، وخصوصية ألوانه الدافئة التي تتداخل حينما تتداخل بسلاسة سحرية يكاد الناظر اليها لا ينتبه كيف حدثت وكيف انزلق اليها لون نقيض هنا أو هناك في أرجاء اللوحة، لينسجم معها ويُكثف من تعبيريتها.

ليس فقط استخدام تقنية الكولاج ما ارتبط باسم الفنان ولكن أيضا رغبته العارمة في التجديد وتنويع للتجارب الفنية واستخدام المواد المختلفة في بناء نصه الفني. فكل من اضطلع على مساره الفنيّ الطويل وجده متنقلاً من الواقعية الأكاديمية إلى التكعيبية، إلى التجريد الهندسي، إلى الأسلوب الرمزي، فالتعبيري، فالوحشيّ المشحون بالألوان الحارة والأشكال الحيوية إلى التقشف اللوني الذي يعجّ بخطوط عصبية يُنسي المُشاهد حضور الألوان الطاغي في لوحاته السابقة.

كما يعتبر الفنان من رواد تقنية الحفر في العالم العربي، وقد قدّم أعمالا فنية عديدة قوامها الحفر على الزنك والنحاس والرقائق المعدنية.

المعرض الذي تقدمه صالة جانين ربيز، يدخل الزائر في دوامة الزمن الموحّد. فلا الماضي هو ما لم يعد موجوداً ولا الحاضر يقتصر على كونه وليد لحظته. واللافت في المجموعة الفنية المعروضة بروز عدد من اللوحات، تبدو وكأنها أنجزت مؤخراً و من وحي اليوم واحتداماته العصرية. نخصّ بالذكر تلك الأعمال المشغولة بمادة الباستيل والحبر، والكولاج. لم يضع لها الفنان عناوين فبقيت شاهدة على نظرة الفنان إليها على أنها حقول تجارب حميمية ولكن غير محددة وقابلة للتحول في أي لحظة.

تغزل خطوط الفنان الدقيقة بحساسية عالية في مساحة اللوحات. تلتفّ وتتلوى وتمتد، كما شأنها دائماً منذ أن كان الفنان فناناً له اسلوب خاص يُعرف به. إن الأعمال المعروضة تحمل شحنة عصرية عالية تماماً بسبب تشابك تلك الخطوط التي خطّها الفنان في زمن كان أقل توتراً، أقلّ سرعة ومرارة. كما أن العزلة التي "تعيشها" أشكاله وبعض أجزاء من شخوصه المرسومة تلامس أفكاراً ومشاعر شديدة الصلة بعالمنا الحالي كالشعور بالوحدة والخوف من الآخر وغياب الشعور بالطمأنينة. أما ما يضفي على هذا المعرض وشاحاً عاطفياً كونه يحدث في أرجاء الصالة، التي كانت تحمل سابقا ومنذ فترة الخمسينات من القرن الفائت اسم "دار الفن" الغنيّ عن التعريف، حيث كان الفنان يعرض تباعاً جديد نتاجه الفنيّ.

قدم هذا المعرض الذي جاء تحت عنوان "أعمال مختارة-أعمال مميزة"، الناقد والفنان سمير الصايغ. لعل جلّ وأصوب ما ذكره عن حليم جرداق جاء في هذه الكلمات "لقد شكلت رؤى الحداثة والمبادىء الفلسفية والأخلاقية التي آمن بها حليم جرداق وسعى إلى تحقيقها والإلتزام بها في مسيرته الفنية، سحابة أو ما يشبه أجنحة الملائكة، إرتفعت فوق رأسه، تظللها ومشى في رفقتها بخطى قديس". 
*يستمر المعرض حتى نهاية كانون الأول 2015
©جميع الحقوق محفوظة لموقع المدن 2024