محمد خضير... من يوميات كاتب عرائض

المدن - ثقافة

الثلاثاء 2018/02/13
تلّ القمامة:
أشقّ طريقي يومياً بين طاولات أقراني كتّاب العرائض، قبل أن أنتهي الى طاولتي أمام دائرة الكاتب العدل في وقت دوامها المسائي. يمر الوقت بطيئاً، فأنا خلاف أقراني الكتّاب، أنتظرُ الزبونَ الذي سيطلب مني تقديم طلبٍ للكاتب العدل يلتمس فيه توثيقَ شكواه الغريبة. بعد جولة اعتيادية، قريبة وبعيدة، يحمل زبوني معه ما يعرضه كي أحكم له أو عليه عند الكاتب العدل. والحقيقة أنّ زبوني واحد من مجموعة نادرة الوجود، تراجعني لتوثق جولاتها حسب القانون المرعي... في هذه الأيامّ، وأبقى بعد انصراف أعضائها بلا عمل يُذكر او يوصَف.

وصل زبوني، المقرّب مني أكثر من جماعته، مبكراً على عادته الفوضوية المعروف بها. رمى بجسده على كرسيّ وثير أعددتُه لأجله بجانبي. وما أن استقرّ حتى استفاضَ في قصّ حالته المطلوب توثيقها. قال بانزعاج ظاهر: "اكتبْ ما سأمليه عليك".

قال: في جولتي هذا اليوم، جلستُ في مقهى منزو في الظل، فاقتربت مني أطياف ملائكية، تتهدّل ثيابها مثل دشداشةِ مغسِّل الموتى. تحلّقتني الأطيافُ وراحت تمسّد أطرافي الساكنة سكونَ البرصان المنبوذين، وتتندّر علي. دنا طيف يشبهُ قريني الصبيَّ الذي كنتُه، فمسحَ على جبهتي وأمرني بالكتابة: "اكتُبْ. اكتُبْ ما تحسبه شكواكَ الأخيرة". أجبته: "ما أنا بكاتب". لكنه عاد وأمرني بغضب: "اكتُبْ أيها الجاحد". رددت: "ما أنا بكاتب"ْ. تحشرجَتْ العبارة في صدري، لكنها سرعان ما ارتسمتْ كفرقعاتِ رأسِ السَّنة، حرفاً بعد حرف، على صدري الممدّد على دكة المقهى/ المغسل. ذُهِلَ المغسِّلون لجرأتي، وانفضّ جلاس المقهى من حولي، بينما الملائكةُ يتوزّرون أجنحتَهم المطاطيّة ليحملوا الصبيَّ الذي كنتُه، ويلقوه خارج المدينة، خلف تلّ قمامة.
صمتَ زبوني، المسترخي بجانبي، ثم أمرَني بما أمرَه الملاك بكتابته. ظنّ زبوني أنّي سأرفض أمره، فعاد يُملي عليّ أمرَ الملاك للمرة الثانية.

انتقلتُ بعملي في استملاء الشكاوى الى مكان آخر، بعيد عن باب دائرة الكاتب العدل، بعد انقطاع الجماعة النادرة، وهبوطها بسائر أعضائها الى مخابئها تحت الأرض. وسأعجب كثيراً إذا ما توجه الى منضدتي شخص غريب، وطلب مني تدوين شكواه، فالأفق ينفتح أمامي بلا كتابة، بل أنه صار أكثر امتلاءً بتلال القمامة.

(*) مدونة كتبها القاص العراقي محمد خصير في صفحته الفايسبوكية.
©جميع الحقوق محفوظة لموقع المدن 2024