ضجة "مولانا": سمك لبن تمر هندي

أحمد شوقي علي

الأربعاء 2017/01/11
ربما يكون سهلاً وصف فيلم "مولانا"، المأخوذ عن رواية بالعنوان نفسه للكاتب إبراهيم عيسى، والضجة التي أثيرت حول موضوعه، بالمصطلح المصري الدارج "سمك لبن تمرهندي"، الذي يدل على "اللخبطة" وعدم اتساق الخلطة/الموضوع، ولكننا لا نريد الاقتداء بصناعه وكذلك مهاجميه فيما سلكوه من استسهال في الطرح أو سذاجة في الانتقاد.

لم تمر أيام قليلة على عرض الفيلم، الذي لاقى رواجاً جماهيرياً، إلا ولاحقته اتهامات كثيرة من جهات سياسية ودينية متعددة، انطلقت من البرلمان المصري وامتدت حتى أروقة مؤسسة الأزهر والتيار السلفي المصري. وطالب النائب شكري الجندي، عضو "اللجنة الدينية" في البرلمان، وهو لواء شرطة متقاعد، بوقف الفيلم فوراً لأنه "لا يجوز تشويه صورة الأئمة بأي طريقة كانت"، ومنادياً بضرورة "عرض نصوص الدراما الدينية على الجهات المتخصصة من المؤسسات الدينية، ليخضع لرقابة العقلاء ممن يحبون الدين والوطن، لا لرقابة أصحاب الأهواء من المصالح الشخصية، وتحقيق المصلحة المادية". كذلك رأى العديد من شيوخ الأزهر أن الفيلم ينتقص من هيبة الداعية الإسلامي واتفق معهم في ذلك التيار السلفي، الذي رأى مناصروه أن الفيلم ليس إلا دعوة للتشيّع.

الظاهر من تلك الاتهامات أن المنتقدين لم يشاهدوا الفيلم، وأن هجومهم يتسم في معظمه بعداء ضد مواقف إبراهيم عيسى، المناهضة للفكر السلفي، والمنتقدة في كثير من الأحيان لأداء مؤسسة الأزهر فيما يخص "تجديد الخطاب الديني"، أو كما وصفه أزهريون في عدد من التقارير الصحفية بأن "فكرة الفيلم تكاد تكون ملخصة في كره مؤلفه للاتجاه السلفي وأثره على المجتمع".

ولا تبتعد تلك الاتهامات عن ذهن المشاهد الذي قرر الذهاب لرؤية الفيلم، والذي سيكتشف مدى سذاجتها بمجرد انتهائه. فلا يقدم الفيلم، أي جديد يذكر في موضوعه، بل على العكس، يبني عالمه اتكاءً على ما هو معروف سلفاً لدى عوام المصريين من صورة راسخة عن الداعية الديني، وثيق الصلة بالنظام الحاكم ورجال أعماله، وعن الصورة الدعائية التي اتخذتها صفة الوعظ الديني باعتبارها سلعة لا أكثر.

لذلك لا يعتبر "مولانا" تجريحاً في هيبة شخص أو مؤسسة ما. على العكس، قدمت الدراما والسينما المصرية، منذ انطلاقهما وحتى الآن، صوراً أكثر انتقاداً إلى شخص المتدين/الإمام/الداعية، مما سيجده المشاهد في فيلم إبراهيم عيسى ومجدي أحمد علي. وأيضاً لا يعتبر الفيلم جريئاً بتعرضه لكشف ما كان دائراً أثناء الحكم المباركي من اتفاق بين النظام والتيارات الدينية الرسمية منها والسلفية، فقد بات ذلك معروفاً لا يحتاج إلى تفصيل.

وكان الأمر ليتغير كثيراً لو بذل القائمون على صناعته جهداً حقيقياً لصياغته، فقصة الفيلم تتعرض بشكل بانورامي سطحي لشخصية الداعية وما يحيط بها من أحداث، وترصد لحياة الشيخ حاتم الشناوي، عمرو سعد، الذي أصبح داعية يقدم برنامجاً مشهوراً في إحدى الفضائيات، بعدما كان مجرد إمام بسيط في وزارة الأوقاف، ليتورط بعد ذلك في علاقة مباشرة مع العائلة الحاكمة، فيلجأ إليه ابن رئيس الدولة لمساعدته في إعادة صهره إلى رشده بعدما قرر التنصر.

ويعمد كل من عيسى، مؤلف الرواية وكاتب حوار الفيلم، ومجدي أحمد علي، المخرج ومؤلف السيناريو، إلى اختيار اسم "جلال" للشخصية التي تمثل ابن رئيس النظام، في مزواجة لفظية بين اسمي "علاء" و"جمال" مبارك. غير أن سياق الأحداث يشير إلى أن علاء هو الشخص المقصود. القصة كان يمكن أن تكون أكثر إثارة وعمقاً لو تركزت حول أزمة تنصر "حسن" صهر "جلال"، وما قد ينتهي إليه الشيخ حاتم سواء بإعادته إلى الإسلام أو فشله في مهمته، خاصة فيما يمثله ذلك التنصر من خطر كبير على عائلة النظام المسلمة في دولة تعاني من المشكلة الطائفية مثل مصر، غير أن كل من عيسى وعلي، عمدا إلى حشو الفيلم بزاوئد لا تحتاج القصة إليها، كأن يكون أستاذ حاتم صوفياً، ومتهما بالتشيع في الوقت ذاته، وكذلك اتهام حاتم نفسه بإتباع مذهب "المعتزلة". تلك التفاصيل الزائدة أدت إلى تسطيح الفيلم، وتحويله من عمل فني إلى تصفية للخصومة بين صناع الفيلم وذلك النظام.

ولم يبدُ الحوار الذي صاغه إبراهيم عيسى، أفضل حالاً من القصة، إذ كان مباشراً ومتظارفاً في كثير من الأحيان، ومخلاً في الوقت ذاته بالقيمة الفكرية التي يطرحها. فحين يصر عيسى على إدراج اسم المعتزلة في فيلمه، نجده يختصر "الأصول الخمسة" للمعتزلة في جملة "هو ربنا عرفوه بإيه؟ بالعقل! هو ده مذهب المعتزلة".

أيضًا أدى ذلك الهوس بتجميع كل ما اقترفه نظام مبارك من استخدامه للسلطة الدينية، إلى وقوع الفيلم في تناقضات عديدة، منها أن شخصية حاتم المعتدلة والمتهمة باعتناق مذهب المعتزلة العقلاني، تصف –مثلاً- التماثيل الفرعونية بـ"الإله هُبل". مشهد لا يمكن فهمه في سياق الخطاب الهزلي الذي لجأ إليه الداعية للتعبير عن ذاته طوال أحداث الفيلم، وذلك حين تصر الكاميرا على التقاط صورة التمثال والتأكيد على كونه فرعونياً من زوايا مختلفة. ذلك عدا عن النهاية "الهندية" للفيلم، التي تكشف تحولاً غير منطقي في قصة حسن المتنصر.

ومن بين التناقضات التي وقع فيها الفيلم أيضا، محاولته إظهار جهل شريحة كبيرة من العامة في خلطهم بين الصوفية والتشيع. ولكن مجدي أحمد علي، يقع في الخلط نفسه، عند إظهاره مشهد الاعتداء على الشيخ الصوفي، في صورة أشبه بالاعتداء الذي جرى على الشيخ الشيعي حسن شحاتة، في زاوية أبو مسلم في الجيزة، في حزيران/يونيو 2013، وأدى إلى مقتله وثلاثة من تلاميذه.

وعلى الرغم من اختصار الفيلم لدوافع التحول الديني إلى عاملين فقط: الهروب من الأوضاع الاجتماعية السيئة أو التمرد على المجتمع، وهو تناول سطحي للغاية، إلا أنه يحسب للفيلم جديته في اختيار قصة امرأة كمثال على التحول إلى الإسلام، واختيار رجل كمثال على التنصر. ودائماً ما نظر للمرأة باعتبارها الحلقة الأضعف مجتمعياً، والأكثر عرضة للتأثيرات الفكرية منها إلى الرجل.

ربما لن ينشغل المشاهد الذي أنهى لتوه فيلم "مولانا"، بالاتهامات التي أثيرت ضده، بل سيطرح على نفسه أسئلة متعددة، قد لايجد إجابة لها، نحو: لماذا الصوفية؟ لماذا التنصر؟ لماذا نظام مبارك؟ لماذا السلفية؟ لماذا الشيعة؟ ولماذا كان الفيلم؟
©جميع الحقوق محفوظة لموقع المدن 2024