ألبرت رنجر- باتش: الأشياء وتحولات المدن

جوزيف الحاج

الثلاثاء 2017/11/14
تعرض باريس اليوم إرثاً فنياً هائلاً للألماني ألبرت رنجر- باتش Albert RENGER-PATZSCH  (صالة "جو دو بوم"، حتى كانون الثاني 2018)، بناه على تفكير مثالي بمميزات الفوتوغرافيا ومطابقتها للسياق الفني والثقافي المعاصرين.


رنجر- باتش (1897- 1966) هو أحد رواد "الموضوعية الجديدة"، تلك الحركة الفنية التي انطلقت من ألمانيا في العشرينيات. كان عمله حاسماً في سيرورة الإعتراف بالفوتوغرافيا واستقلاليتها. جدّد الواقعية الفوتوغرافية عبر مقاربة قامت على شكلانية صارمة وتقنية نموذجية: رفض التعبيرية والإختزالية التصويرية، برع في التكوينات واهتم بالتفاصيل والبنيات والأشكال، وركّب الصورة  بصفاء. تلك هي بعض المؤشرات التي جعلت من الفوتوغرافيا واسطة واعدة ومميزة لجيل جديد من الصور والتخيل الفني، يتلاءمان مع مرحلة تاريخية اتسمت بالتطور الصناعي والتكنولوجي.



أبرز أهمية دور الفوتوغرافيا الفريد بين الفنون التصويرية، ومميزاتها الجوهرية وقدراتها التوثيقية. إرتبطت بساطة وأصالة أعماله بمراجعته للمكونات الواقعية والموضوعية للفوتوغرافيا وإحتمالاتها الفنية والشاعرية والغرائبية. اختبر مدى التوسّع في التجارب الذاتية للصورة.

تناول إنتاجه الغزير موضوعات عديدة. صوّر في بدايته أعداداً كبيرة من النباتات والأزهار لموسوعة "عالم النبات"- 1924،"بهدف إستنساخ أجزاء من الطبيعة بموضوعية ووضوح" كتب.  فكانت مجموعةعاليةالتقنية دقيقة في إبراز الأشكال، ولقطات جد مقرّبة لإبراز التفاصيل. في أول نصوصه("صور النباتات"-1923) اختصر آراءه في الفوتوغرافيا وقدراتها في تمثيل الطبيعة. حدّدت صوره ونصوصه قواعد توجهاته الفنية الأساسية: "الإهتمام بالتفاصيل وتقييم النواحي الشكلانية والبنيوية والمادية المميّزة للطبيعة، ما يترابط مع تأكيد الصفات الجوهرية للفوتوغرافيا – الواقعية، الموضوعية، الحيادية - ودورها الإستثنائي في إدراك الواقع".

في 1927، صدر كتابه عن جزيرة في شمال ألمانيا: طبيعة، وجوه، عمارات، حياة السكان اليومية، تقاليدهم وتمايزاتهم الجسدية. صور وصفت واقعاً في أقصى تباينه مع التحولات الصناعية الجارية في المدن الألمانية. في 1928 نشر "مدينة لوبك"، ثم "هامبورغ"(1930)، مبيناً ظروف نشوء المدينة الحديثة، وتعايش حقب زمنية مختلفة، والتقاء الثقافة التاريخية بتأثيرات العصر الصناعي. برهن عن عين حسّاسة في مواجهتها لأشكال وبنيات الواقع، رافضة لموروثات الرسم، ومشاركة بوعي، "النظرة الحداثية" التي تتطلبها الفوتوغرافيا.

في 1928، صدر كتابه الأشهر "العالم جميل"، الذي أحبّ لو أعطاه عنواناً آخر هو "الأشياء"،  تضمّن مبادئ ومميزات أعماله: المتعة في إظهار جوهر الشيء/ الموضوع، وفي الوقت نفسه، إظهار الإمكانيات المتعددة لإدراك الفوتوغرافيا البصري: "إظهار فرادة كل شيء محسوس هو الذي يؤكد أو يثبت ميزة الفوتوغرافيا". الكتاب مجموعة تيمات وأشياء تسكن عالم رنجر- باتش، أشبه بمختارات مصوّرة من بداياته المهنية، رتبها في فصول وفق تسلسل موضوعي تصوّري: الطبيعة، النبات، الحيوانات والناس، العالم الذي شيّده الإنسان، الأشياء، الأبنية، المدينة، الآلات، المنشآت المعدنية والمصانع. إنها رؤيته المتجددة للعالم، في سياق من تأثرات متبادلة، ووئام بين الطبيعة والتكنولوجيا، بين المقدّس والدنيوي، بين الموروث والحداثة.



في 1929 سكن في منطقة الروهر الصناعية، حيث صور الأماكن الوسيطة بين المدن والأرياف، ورصد تحولاتها بفعل التقدم الصناعي وتطوير البنى التحتية.  تبدّلت نظرته في هذه المرحلة: أصبح التأطير أشمل حتى كاد أن يتحوّل بانورامياً. تكثفت مكونات المشهد لتستكشف علاقات المكان وتأويلاته. إن تفضيله لزوايا رؤية واسعة تُظهر بيئة الأشياء لا دقائقها ليس سوى إشارة لموضوعية أعمق. إظهاره لأشخاص عن بعد عبّر عن قلق كبير من تفاوت النسب بين الأجساد البشرية وبين المنشآت الصناعية المعقدة: عامودية وأفقية، قريبة وبعيد، تختلط وتتجاور. تكثّفت النسب بين المسطّحات المتتابعة مبيّنة تحوّل الطبيعة إلى أرض متنافرة المظهر، مغايرة للطبيعة، تاريخياً وإجتماعياً.

شكلانيته قاسية ومدروسة "توجّه إدراكنا البصري مسطّحات متتالية، أحياناً متعامدة، وأحياناً أخرى قطرية".  في صوره للأبنية مزج الأشكال والبنيات بواقع نفعي ميّز المشيدات الصناعية. في تصويره الأشياء اعتنى بالتفاصيل مضفياً معاني جمالية، ومشدّداً على الشرط التصنيفي لها، من خلال طبيعتها التكرارية والموحدة. "موضوعات التكنولوجيا سبب لترسيخ إستقلالية الفوتوغرافيا عن الفنون التصويرية الأخرى. الفوتوغرافيا هي، تقنياً ومادياً، الواسطة الأكثر ملاءمة لتمثيل واقع العصر الصناعي الحديث".

بعد فقدان القسم الأكبر من أرشيفه خلال الحرب (1944)، انتقل إلى الريف، وصوّر موضوعات جديدة تناولت المشهد الطبيعي. وجد  في الأشجار والغابات والصخور طاقات حيوية حوّلت إدراكه نحو حال من الإسهاب والتشتت، متجنباً الحداثة الطارئة والتداعيات المدمرة للحروب.

في سنواته الأخيرة، نشر "أشجار"(1962)، و"صخور"(1966) شارحاً مفاهيمه وجماليته المتجددة نحو الطبيعة. صور أقل خطوطية تصف طبيعة، ظاهرياً، مشوشة وغير متوقعة: "بساطة الطبيعة واعتدالها المحيرين يسلطا الضوء على ظواهر نفسية. وتتيح للمشاهد التأمل وتجريب النظر. إنه الشرط لرؤيا واقعية، شاعرية وماورائية، تكشف تحولات الطبيعة، صمتها، إيقاعاتها، وأشكال التأثيرات التي تسببها أو تتلقاها."، كتَب.

©جميع الحقوق محفوظة لموقع المدن 2024