يهود الهولوكوست ومسلموه: أكثر من أخوة

شادي لويس

الجمعة 2017/02/03
"لاشك في أن ما فعله "دريكوا" كان بقصد أن يرى اليهود يمزقون ويقتلون على أيدي المسلمين، فاليهود لم يكن عددهم كبيراً. لكن سرعان ما أدرك اليهود هدفه، وكذلك العرب. توقع "دريكوا" مواجهات بين العرب واليهود، لكن العكس هو ما حدث: تفاهم ودّي انتشر بين الجماعتين. لم يكن للمرء أن يتخيل أن للعرب واليهود في معسكر الاعتقال أن يصبحوا أصدقاء حقيقيين، بل وحتى أخوة. سواء أردت أن تصدق أم لا، هم كانوا أكثر من أخوة بالفعل في الجوع والمعاناة والبؤس والعقاب والألم..".

يصف محمد أزرقي بركاني، أحد أعضاء جبهة التحرير الوطني الجزائرية، في مذكراته الصادرة بالفرنسية العام 1965، المعاناة التي قضاها مع "أخوته العرب والأوروبيين" في معسكرات حكومة فيشي الفرنسية، الموالية للنازية، على الأراضي الجزائرية، وبالتحديد في الفترة بين عامي 1941 و1943 التي تولى فيها العسكري الفرنسي، دريكوا، إدارة معسكر الاعتقال. تقدم مذكرات بركاني وثيقة تاريخية إستثنائية لدراسة الهولوكوست في دول شمال أفريقيا الخاضعة لإحتلال دول المحور، ولإعادة اكتشاف العلاقة بين العرب/المسلمين من ناحية، واليهود من ناحية أخرى، سواء داخل معسكرات الاعتقال أو خارجها، لكن الأهم أن ما كان يبتغيه بركاني من وراء نشر مذكراته، وهو ما كتبه في السطور الأولى من مقدمة كتابه، أن لتلك الأعوام ألا تمحى من الذاكرة.

في السابع والعشرين من كانون الثاني 2017، أصدر الرئيس الأميركي دونالد ترامب، قراره بحظر دخول مواطني سبع دول، ذات غالبية من المسلمين، من دخول الولايات المتحدة، ليوافق وبمحض الصدفة، أو ربما بفعل حصافة التاريخ، اليوم العالمي لذكرى الهولوكوست. في اليوم ذاته، كان اكثر من كنيس يحيي ذكرى المحرقة، في الولايات المتحدة، فاتحاً أبوابه لمعرض "القصص المنسية عن المسلمين الذين أنقذوا يهوداً أثناء الهولوكوست"، مقدما 15 نموذجاً ضمت الدبلوماسي الإيراني في باريس، عبد الحسين سرداري، والذي زوّد أكثر من ألفي يهودي فرنسي بوثائق سفر إيرانية، من دون علم قادة بلاده. وكذلك الجزائري قدور بن غبريت، وهو من مؤسسي المسجد الكبير في باريس، والذي زود أيضاً عشرات اليهود الفرنسيين بوثائق مزيفة تثبت أنهم مسلمون لتفادي ترحيلهم إلى معسكرات العمل الجماعي. وعمدة مدينة تونس السابق، الشريف سي على سيكات، والذي أخفى 60 سجيناً يهودياً هارباً، في مزرعته، حتى نهاية الحرب، ومواطنه خالد عبد الوهاب الذي أخفى عائلتين يهوديتين في مزرعته بالقرب من مدينة المهدية.  

بعد ساعات قليلة من قرار الرئيس الأميركي، دمر حريقٌ المسجد الوحيد في بلدة فيكتوريا الصغيرة بولاية تكساس. وفي الصباح توجه رئيس كنيس "بناي إسرائيل"، إلى منزل أحد مسؤولي المسجد، مقرضاً مسلمي المدينة مفاتيح الكنيس لإستخدامه حتى ينتهي ترميم المسجد. كانت تصريحات روبرت لويب للصحافة بسيطة ومختصرة: "كلنا نعرف بعضنا البعض هنا... عندما تحدث كارثة من هذا القبيل، فعلينا أن نقف مع بعضنا البعض". لم تتضح أسباب الحريق بعد، ولا يبدو واضحاً أيضاً إذا كانت صلوات ذكرى المحرقة في اليوم السابق، كانت لا تزال في ذهن روبرت لويب حينما عرّج على جاره للتضامن معه.

شهد العقد الماضي، تحولاً متواضعاً، وإن كان حاسماً، في المجهود البحثي المعني بدراسات الهولوكوست والمسلمين. فبالرغم من التركيز على العلاقة بين الحركات الفاشية في الدول العربية ونظيراتها في أوروبا، مثلاً "حزب مصر الفتاة" في مصر، وعلى التعاطف الذي أبدته قيادات في النضال الفلسطيني اتجاه النازيين، ومن بينهم مفتي القدس الحاج أمين الحسيني، فإن العام 2006 شهد صدور كتابين قدّما قراءة أكثر توازناً، ورؤية أكثر تعقيداً للمسلمين والعرب في سياق المحرقة. فكتاب نورما جيرشان، "مسلمو البيسا الذين أنقذوا اليهود في الحرب العالمية الثانية"، والذي ركز على جهود الألبان في إخفاء اليهود أثناء الإحتلال الألماني، لم يكتف بتسجيل تقاليد "البيسا" الألبانية التي أوجبت على أصحابها حماية المضطهد، بوصفه فرضاً قرآنياً، بل يكشف أيضاً أنه، بينما تم محو مجتمعات يهودية بكاملها في أنحاء أوروبا أثناء المحرقة، فإن أعداد اليهود في ألبانيا والمجتمعات الإسلامية في البلقان بلغت عشرة أضعاف، بفعل توافد اليهود الهاربين من أوروبا للإحتماء بتقاليد البيسا.

أما كتاب روبرت ساتلوف "بين الصالحين: قصص الهولوكوست المفقودة في أرض العرب"، فيتتبع شهادات العرب واليهود الذين شهدوا الهولوكوست، وكانوا شركاء في جرائمه وضحايا له، في ليبيا وتونس والجزائر والمغرب. ينبهنا ساتلوف إلى أنه في حين يبدو أن بطولات المسلمين الذين غامروا بحياتهم لأجل حماية اليهود أثناء الهولوكوست، قد نالت اعترافاً رسمياً، إلا أن الستين إسماً لشخصيات مسلمة والتي تم تضمينها بين أسماء لشخصيات غير يهودية ساهمت في إنقاذ يهود من المحرقة في قائمة "الصالحين بين الأمم" في نصب ياد فاشيم، معظمها لمسلمين بلقانيين أو أتراك وليس بينهم عربي واحد. لذا، فجنباً إلى جنب مع قصص هولاء ممن تعاونوا مع السلطات الفرنسية والإيطالية، فإن ساتلوف يعيد اكتشاف عشرات القصص عن المواطنين العاديين والمسؤولين الحكوميين العرب، ومن بينهم عاهل المغرب نفسه، السلطان محمد الخامس، الذين تحدوا سلطات الإحتلال الفرنسي والإيطالي، لإنقاذ مواطنيهم اليهود، وغيرهم من السجناء اليهود الذين تم جلبهم من أوروبا.

وفي العام 2010، نشرت كارين غراي رولي، كتابها "مسجد باريس الكبير: كيف خلص المسلمون اليهود أثناء الهولوكست"، لتتبع بطولات عرب المهجر لإنقاذ اليهود الأوروبيين والعرب، وقصة المسجد الذي استضاف يهود باريس أثناء محنتهم. وفي العام التالي، نشر كتاب "ظل الأسد: شندلر الأيراني، وبلاده" لفاريبورز مختاري، ليضم الى قائمة البلقانيين والأتراك والعرب، دبلوماسياً إيرانياً نشر كتباً لتضليل السلطات الفرنسية، مدعياً بأن يهود إيران يتحدرون من أصل آري، وأنهم ليسوا ساميين، مستخدماً الدعاية النازية نفسها لإنقاذ مواطنيه اليهود، وغيرهم ممن زودهم بوثائق مزيفة تثبت جنسيتهم الإيرانية.

لكن العلاقة بين المسلمين والهولوكوست لا تقف عند حد الماضي وذكراه. ففي آب/أغسطس 2016، ربطت الكاتبة والناشطة الحقوقية آنيا كورديل، في مقال لها في موقع "هافنغتون بوست" الأميركي، بين حظر البوركيني الفرنسي، والهولوكوست، راسمةً تشابهات واضحة بين الدعاية المناهضة للسامية في أوروبا، والتي مهدت للمحرقة، وبين الخطاب المتعلق بالمسلمين في فرنسا اليوم، والمنع التدريجي المفروض عليهم من ولوج الحيز العام. وفي نهاية تشرين الثاني/نوفمبر 2016، نشرت جريدة "نيويورك تايمز" موضوعاً بعنوان "تهديدات بهولوكوست ضد المسلمين"، معدِّدة العشرات من جرائم الكراهية منذ إعلان فوز ترامب في انتخابات الرئاسة، من بينها رسائل تلقتها ثلاثة مساجد في ولاية كاليفورنيا، ومسجد في جورجيا، وتضمنت تهديداً بأن "ترامب سيفعل بكم، أيها المسلمين، ما فعله هتلر باليهود".

لكن العلاقة بين الهولوكوست وقرار حظر السفر الأميركي، لم تكن في حاجة إلى مزيد من التوضيح في البيان الذي أطلقه 48 حاخاماً يهودياً بريطانياً قبل أيام، داعين فيه رئيسة الوزراء البريطانية، إلى تذكير الرئيس الأميركي بـ"دروس التاريخ": "ففي الأسبوع الماضي، أعادت ذكرى الهولوكوست إلى أذهاننا ما يمكن أن يحدث عندما تمر الكراهية المؤسسية من دون مقاومة. وهذا الأسبوع، نقف جنباً إلى جنب مع أبناء عمومتنا، المسلمين، وهم يواجهون العواقب المباشرة، وغير المباشرة، للقرار التنفيذي للرئيس ترامب".

اليوم، وفيما تبدو إدارة ترامب هي الأكثر قرباً إلى إسرائيل، وفيما يحتفي رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو بالقرارات الأميركية، معرباً أيضاً عن دعمه لفكرة السور العازل المكسيكي، وفيما لا يزال خطاب إنكار الهولوكوست بالكامل أو التشكيك في تفاصيل رواياته، مهيمناً بين الكثير من العرب والمسلمين، فإن مذكرات معسكرات الإعتقال التي رواها بركاني، إلى جانب أبطالها من مقاتلي الإستقلال الجزائري، جنباً إلى جنب مع مَن هم "أكثر من أخوة" في المعاناة والإضطهاد من السجناء اليهود، وقرارات الإدارة الأميركية ضد المسلمين، وحملة التضامن المتنامية ضدها.. كلها أمور تدعونا مرة أخرى إلى تذكُّر دروس التاريخ، حتى وإن أصبنا بهلع يليق بإدراكنا لحقيقة أن للتاريخ أن يعيد نفسه في أحيان كثيرة.
 
©جميع الحقوق محفوظة لموقع المدن 2024