"ظلال وأزهار" للنيجيريّ بن أوكري..أزهار في عاصفة العنف

هيثم حسين

الخميس 2016/11/24
يصوّر النيجيريّ بن أوكري في روايته "ظلال وأزهار" كيف أنّ العنف يغرق مدينة لوكاس، هنا جثة فتاة مقتولة لا يعرف أحد من قتلها، وهناك جثة أخرى مرمية على الطريق، أطفال الشوارع ينشطون لسرقة ما يتيسّر لهم، يعكسون المستقبل الأسود الذي ينتظرهم وينتظر بلدهم، باعتبار أنّهم سيكونون جيل المستقبل، الجيل المحروم من أبسط حقوقه في الحياة، يجد نفسه في مهبّ الجريمة رويداً رويداً.

يشير أوكري إلى جانب من الفساد الذي يسود، وتعامل عناصر الشرطة بطريقة عدائية مع الناس، وابتزازهم وإرغامهم على دفع رشى لهم، وذلك وسط غياب القانون وسيادة شريعة الغاب، حيث التصفيات والاغتيالات رائجة ومنتشرة بين رجال الشركات الذين يتعاملون بعقليّة رجال العصابات، يستعينون بالعنف والجريمة لتمرير صفقاتهم المشبوهة.

بطل الرواية؛ جيفاي أوكوي، يعيش في أسرة ثرية، تكون حياته اختباراً متجدّداً، يكون الفقد السمة الأبرز فيها، يفقد صديقه، ثم والده وعمه، ويفقد أمه بطريقة ما، يجد نفسه وحيداً في مواجهة العنف المحيط به، يستعين بالذاكرة ليشهرها في وجه الواقع والمستقبل ويواجه بها مخاوفه، يتذكّر محادثته مع صديقه أوود أثناء تخطيطهما لمستقبلهما الدراسيّ بعد حصولهما على الشهادة الثانوية، فأوود الذي كان بصدد العمل كمراسل لصحيفة التايمز البريطانية لصديقه كان يؤكّد له أنّ على الأفارقة أن يكونوا رجال العالم، لكنّ جيفاي يردّ عليه بقوله: "عليهم أن يكونوا رجال الوطن أولاً".

والد جيفاي هو جونان أوكوي الذي يدير شركة متعاونة مع الأوروبيين ويظل مشغولاً على الدوام. كانت مكاتبه في أكبر شارع في المدينة، لكن صرحه اهتزّ بحدوث توتّرات في عمله وإصابته بنوبة قلبية، لكنه ظلّ يجاهد للعودة لإكمال رحلته في تقوية شركته في الوقت الذي كان يكثر من حوله المتربّصون به.

يعثر جيفاي على جرو ضالّ يتلاعب به صبيان في الشارع، يرغب بحمايته من أذاهم، يساومهم لشرائه، تهزّه عاطفة الحنان بعد أن ظلّ يراقب أولئك الصبيان المشاكسين طويلاً، إذ إن الشعور بمعاناة الناس لها وقعها الأقوى لديه، وهو الذي فهم بفطرته فحسب، وليس بالتجربة، أنّ الذين عاشوا في الألم هم من يعرفون الألم، فغدوا كالأعشاب التي تنشر الرائحة الكريهة حيثما ذهبوا.

يعيد الجروَ إلى صاحبته، وبعد ذلك يعثر على رجل مصاب بجروح خطيرة في الشارع، يهبّ لإسعافه، ليكتشف لاحقاً أنّه ضحيّة من ضحايا والده. يحاول جيفاي ربط الأحداث التي تمر به، يتذكر نصيحة أمّه له بأن عليه دائماً التفكير ملياً بتجارب اليوم، أخبرته أن الدروس التي تعلمنا التجارب لن تضيع، وأنّه بتلك الطريقة يكون العقل قادراً على إيجاد الانسجام في سياق الأحداث. وفي لحظات عميقة تخبره بجدّ أن المعنى الحقيقيّ للعيش ليس في الامتلاك ولكن في التعبير عن الذات، وبأقل المحاولات، وأن يطوّر الفرد نفسه بطريقته الخاصّة.

ينتبه الأب إلى أنّه انشغل لسنوات عن طفله الذي شبّ في غفلة منه، يسعى لإعطائه بعض الدروس الحياتية من واقع خبرته، أراد أن يرمّم ما ينقص اللمسة الشخصية، أراد أن يقول كل كلمات الحكمة التي قالها فيما مضى. يقول له إنّ أعظم معارك الإنسان هي تلك التي يقاتل نفسه فيها، وإنّ المجتمع الذي نعيش فيه معقد جدّاً ولكي تحصل على شيء منه فعليك أن ترتفع فوق النظام. ينصحه قائلاً: "امضِ على طريقتك الخاصة في الحياة. قف على قدميك، اعثر على برنامجك الخاص وكن رجلاً خشناً لا تهزه المواقف ولكن لا تتخذ من منهجي قدوة فلقد اقترفت أخطاء عديدة ولي الآن أعداء عديدون".

الأب الذي خاض كثيراً من معاركه ضدّ خصومه ليبني شركته، أودى بأخيه في معركة السيطرة والنفوذ، أوقعه في حبال السجن فترة وتخلّص منه كعقبة في طريقه، يتذكر الأحياء الفقيرة المحكومة بالمرض والتي تغلي، تلك التي جاء منها، حيث رعب الموت الجماعي والحرمان يعيش محنة المرض والخوف من الفقد، ثم يرحل في مشاجرة وملاحقة مع أخيه نفسه. أمّا ابنه فيعيش محنة سوء تصرّفات أبيه وتاريخ المفعم بالشرور، يسمع أصواتاً في رأسه تكرّر أنّ الابن يعيش في آثام أبيه، الأب يبذر والابن يحصد، الابن يصبح أباً وتستمر الدائرة. ينتابه شعور أنّه سوف يجنّ جرّاء تلك الحالة.

ينوس الروائي بين ذاكرتين تتجاذبان أبطاله، ذاكرة الأب جونان الذي يتذكّر كيف هرب إلى لوكاس بعد فقده والده، وكان أهمّ شيء عنده هو كيف يصنع حياته، أن يصنع الثروة ويكون ثرياً، ولم يستغرق الأمر طويلاً ليدرك أن المال والسلطة هما الغاية الحقيقية، وأنّه بالسلطة يمكنه البقاء على قيد الحياة دون خوف من الماضي. تعلم أنّ قمّة المجتمع يحكمها رجال الكهوف الذين يسيطرون عليه بالقوانين ولكن بشكل مختلف، فأصبح التعايش مع وجودٍ معادٍ في وجود خشن لا ينحني جزء منه، أصبح استحواذياً ومحارباً من أجل العمل الأبدي والسيطرة والقوّة.

أمّا الابن جيفاي فيعترف أنّ والده يذكّره بزعماء المافيا، تحدّى برغباته كل الأعاصير والرياح الموسمية، خلّف بنى مهشّمة على الدروب التي مرّ عليها، هشّم السويقات الرقيقة للأزهار التي ترعرعت في الحقول المجاورة لرغباته، وتراه متصالحاً مع ذاته لأنّه لم يسلك درب والده في شركته التي يعتبرها مسؤولة عن شرور كثيرة. يسمع صوتاً من داخله يناديه ويخبره أنه كبر وخرج من الظلال إلى الضياء وكان الماضي بعيداً رغم أن أذرعه الهلامية تطبق عله من وقت إلى آخر، ويؤكّد أنّ ما يهمّه هو المستقبل.

يصف الروائيّ عقل بطله بالمكدّر الذي أبدى له كما لو أنّ الشر كله في ميدان ما قبل الظهور يترصّده بالمواجهة، يستعيد راويه حكمة أخرى من حكم أمه وهي تقول له "إنّ الأزهار صغيرة في الظلال وهكذا نحن جميعاً لا أحد يعرف ما ستفعله الظلال الكبيرة بالأزهار، لا أحد يعرف ماذا ستصبح الأزهار". ويؤكّد لنفسه أنّ أمّه على حقّ وأنّ البشر ليسوا أزهاراً في الظلال بل هم أزهار في العاصفة.

ـــــــــــــــــــــــــــ
صدرت عن دار نينوى في دمشق بترجمة رعد الزامل 2016. 
©جميع الحقوق محفوظة لموقع المدن 2024