"كأس من الغضب" لرضوان نصار..منفى اختياريّ وضلال منشود

هيثم حسين

الأربعاء 2017/01/11
يحوّل الروائيّ البرازيليّ من أصل لبنانيّ رضوان نصّار في عمله "كأس من الغضب" الغضب إلى شيء ملموس، ينقله من حالة الشعور إلى حالة "التشيّؤ"، يحجّمه بطريقة ما، يحيله إلى سائل يمكن ارتشافه عبر تخصيص تجرّعه بكأس، وكأنّه ماء أو أيّ مشروب آخر. يتحوّل الغضب لديه إلى ما يشبه المُسكر المهدّئ الباعث على النشوة، وكأنّما تحديد منسوبه بكأس واحد يلفت إلى التأثير الإيجابي المأمول منه، وكمّ النشوة المتوقّعة، والسلام الداخليّ المُشتهى.

يثير نصّار في عمله أسئلة تتعلّق بمفهوم الحرّيّة الشخصيّة والاجتماعيّة، وجوانب ممّا يوصف من أطراف متناقضة بالخير والشرّ، ويفكّك ما يصطلح عليه بسلّم القيم، وصور ما يوصف بالضلال والهدى في عيون المرء والمحيطين به، واختلاف زوايا الرؤية ومعايير الحكم على الآخرين.

يصل الراوي إلى مزرعته، يدخل مهدّئاً غضباً مجهول المصدر بداية، تكون صديقته بانتظاره، يحاول التهرّب من المواجهة وتأجيل تنفيس الغضب، يتشاغل بأكل البندورة في المطبخ وهي تراقبه مدّعية الهدوء في الوقت نفسه، كلاهما على أهبة مواجهة من نوع مختلف، حرب خفية تدور بينهما قبل عراك السرير الذي يكون بدوره وسيلة تهدئة للجسد الضاجّ بالرغبة والغضب.

تتحوّل التهدئة التي تعقب "الوصول"، إلى فوضى عارمة على السرير. الغضب في النفوس يتفجّر على شكل رغبة جنسيّة محمومة، تكون الحركات المصاحبة والأفكار التي تجتاح الراوي أثناءها غرائبيّة تعكس ما يعيشه من اغتراب وما يعانيه من انقسام داخليّ.

السرير هو الميدان الذي تدور عليه رحى حرب طاحنة بين جسدين مسكونين بروحين تائهين، بغضب متعاظم لا يستدلّ إلى أيّ طريق للهدوء المأمول، وهو الملعب الذي يكشف فيه كلّ واحد منهما عن جانب من تلك الروح الوحشيّة التي تسكن المرء في بعض أطواره، ولاسيّما في حالة الغضب التي قد تخرجه عن طوره، ويكون كذلك معبراً لتأجيل الغضب أو ترحيله إلى وقت تالٍ غير بعيد.

هناك عنف جليّ يسم تصرّفات بطلي الرواية، يكون العنف كائناً متنقّلاً من مكان لآخر، كأنّه صورة الغضب المتجسّدة سلوكيّاً، أو من نتاجاته المتشظّية على أكثر من صعيد، فالوصول الأوّل الذي يتبدّى هادئاً لا يلبث أن يتحوّل إلى بركان يتمّ التحكّم به، والسيطرة عليه على السرير، عبر تفريغ شحنات الغضب وتنفّس الصعداء قليلاً، ثمّ ينتقل من حالة إلى أخرى، يكون متحوّلاً بدوره.

يحضر عنف لفظيّ أثناء الممارسة الجنسيّة، عنف اللغة يكون صورة عن عنف الواقع، لغة العنف تتجلّى وتظهر على شكل مسبّات يكرّرها الراوي، يلعن كثيراً من الأشياء ويكون مسكوناً بأفكاره السوداويّة عن واقع عنيف قاهر، وكأنّ العنف اللفظيّ صدى العنف المدمّر الذي لا يودّ الارتهان له، فيفرغه في حقل محدود، ويظلّ البيت والسرير من أجزاء هذا الحقل نفسه. 
يقضي الراوي ليلة من إرواء الجوع الجسديّ تتخلّلها أفكار عنفيّة غير مجسّدة، تعقبها أوقات من العنف الظاهر بشكل أكبر. يتحدّث عن واقع مسموم بكثير من السلوكيات الشائنة والأفكار البائسة، لدرجة أن الصمت بين الصديقين يتحوّل إلى لحظات مسمومة، ويفترض الراوي الوعي بالفعل والفكر معاً، ويتذكّر محاولاته تعليم صديقته بعض التصرّفات المتعلّقة بالمحافظة على الوعي بالأشياء والأفكار في أشد الأوقات حرجاً، أو في أكثرها جنوناً.

تكون الفصول الخمسة الأولى القصيرة؛ "الوصول" و"في السرير" و"اليقظة" و"الاستحمام" و"الإفطار"، ممهّدة للفصل الرئيسيّ "الانفجار" الذي يحتّل قرابة ثلثي الرواية، ويعقبه فصل أخير قصير "الوصول". يعيد إغلاق دائرة السرد بالعودة إلى بداية تتشابه بالعنوان والاستهلال وتختلف في التفاصيل التالية التي تمهّد لانفجار مختلف على ما يبدو.

يلعن الراوي نمل المزارع الذي ألحق أضراراً بسياج الحقل، يعبّر عن سخطه وغضبه من ذاك التخريب، وكأنّ ذاك النمل يتجسّد بهيئة إنسان يخرّب سياج أرض مسالمة، يتسلّل إليها ليفنيها رويداً رويداً، ما يدفع الراوي إلى التسلّح والبحث عن بيت النمل ليفتك به، معرباً عن جانب من غضبه.

يكون التهكّم آلية من آليّات تهدئة سورات الغضب التي تجتاح الراوي، فتراه أثناء هبّته للقضاء على النمل يتفاجأ بنبرة تهكّم واضحة في صوت صديقته، تنبّهه إلى ضرورة التخفيف من حدّة غضبه وإعمال عقله كعادته. لكن حنقه يتحوّل في مسار آخر، يجد نفسه محاصراً بسموم كثيرة تحيط به وتكاد تغرقه.

تنتقد المرأة تحوّلات الراوي المفاجئة، يشعر أنّها تستهدف دفاعاته النفسيّة، يوقن يقيناً راسخاً أنّ غضبه يجب أن يُنتشل من المورد، وتكون الحيرة التي تخلقها وتثيرها المرأة بإيماءاتها باعثة على التفكّر والمراجعة بالنسبة إليه، أو دافعة إلى أخذ مزيد من الاحتياطات في التعاطي مع من حوله.

يلفت الراوئيّ إلى جوانب طبقيّة وتصرّفات تسود بين أبناء الطبقات أثناء تعاملها فيما بينها، فالطبقة البرجوازية مثلاً في الواقع الذي يصوّره لا تتوانى عن تعنيف الطبقة الوسطى، ويكون التردّد أحد السمات الجليّة في ردود الأفعال. كما يستعين الراوي المثقّف المتفلسف في مواجهة الصديقة الصحفية التي يصفها بـ"الزعراء"، بشخصيّاته الداخليّة المنشطرة على نفسها، وهو المسكون بالعديد منها كما يصرّح، وتراه يعبّر عن إدراكه أنّه قد تنشب للكلمات أظافر، وقد تؤدّي عكس المراد منها، فتجرح وتمعن في الإيذاء، تستفزّ بشدّة، يعرب عن معرفته بما يسمّيه "العضّ الصائب بأسنان الأفكار"، وكيف أن النزاعات تتكوّن عادة من شظايا الجمل المرتجلة التي تتكامل لترسم صورة من صور "الاعتداء الإنشائي".

يدبّج الراوي محاججات بين المثقّف الزاعم أنّه ينطق بلسان الشعب في مواجهة سلطة قامعة وأخرى تدين الشعب المتلوّن جرّاء تبعيّته ومواقفه، ويكون "التلاعن" سمة بارزة في الانفجار الحاصل بينهما. يتبادلان الاتّهامات فيما بينهما. يكون لكلّ منهما معاييره للحكم على الآخرين وإدانته لأفعالهم وأقوالهم وأفكارهم.

يكرّر الراوي؛ الذي يظهر مبرّراً العزلة التي اختارها الروائي نفسه، أو المنفى الاختياريّ الذي لاذ به، أنه "يتوجّب افتداء تاريخي" كي يتنازل عن "اليتم"، ويعلم أنه مستحيل، لكن يعتقد أن هذا هو الشرط الأوّليّ. ويؤكّد أنّه قد مضى الزمن الذي كان يرى فيه التعايش ممكناً، وكل ما كان يرجوه برأفة من هذا الأمر المشترك هو حصّته، وقد انقضى الزمن الذي كان يرضى فيه بعقد، تاركاً أشياء كثيرة في الخارج ولكن من دون التنازل عما هو حيوي بالنسبة إليه.

يصرّح الراوي أنّه يفضل أن يحيا في ضلال منشود على أن يكون في سيرك نفاق مبتذل. ويذكر كذلك أنّه قد غبر الزمن الذي كان يعترف فيه بالوجود الفاضح لقيم متخيلة هي العمود الفقري لكل نظام، ولكن لم يتوفر لديه حتى النفَس اللازم، ويقول إنه بمنعه من هذا التنفس قد فرض عليه الاختناق، وهو ما يرى أن الوعي يحرره. ويجد أن اهتماماته باتت مختلفة، وعالم مشاكله هو عالم آخر في دنيا غريبة الأطوار.

كأنّما يقوم نصّار بتظهير جزء من الأفكار التي دفعته للانعزال في مزرعته، وهو يقول على لسان راويه إن من المستحيل تنظيم عالم القيم، ولا أحد يزكّي منزل الجنّ، ولذلك هو يرفض التفكير في أي شيء لم يعد يؤمن به، أياً كان: الحب، الصداقة، الأسرة، الكنيسة، الإنسانيّة. وأنه لم يعد يبالي إطلاقاً بكلّ هذا. وأنّ الوجود ما زال يرعبه، ولكنّه لا يخاف من البقاء وحيداً، وأنه لذلك اختار المنفى بكامل وعيه ويقتبس من فيرناندو بيسوا فكرة الاكتفاء بوقاحة غير المبالين الكبار.

يختم نصّار روايته بفصل "الوصول" وهو يحاكي المشهد المسرود في الفصل الأوّل لكنّ القادم هذه المرة مختلف، ويكون التصالح والهدوء بعد موجات التعنيف والتشاجر، يستلقي الراوي على سريره بينما صديقته تدخل البيت وتلجأ إلى غرفته باحثة عنه محمّلة بحنينها إليه، ويخيّم جوّ من السلام المنشود على البيت المنعزل وكأنّ الغضب تبدّد بعد أن انفجر، وكأنّ كأسه قد انكسرت لتفسح المجال لترميم الأرواح المنهكة.


• الرواية صادرة عن منشورات الجمل بترجمة محمّد مصطفى الجاروش 2017.
• رضوان نصار من مواليد 1935، هاجر والداه من جنوب لبنان سنة 1920. كان قد قرر سنة 1984 العزلة والكف عن الكتابة والتفرغ للعمل في مزرعته. وتخلى سنة 2011 عن ملكيّة أعماله التجارية لصالح كلية الزراعة في جامعة ساو كارلوس الفيدراليّة، ثمّ دخل في عزلة كاملة. اختيرت روايته "كأس من الغضب" ضمن القائمة الطويلة لجائزة المان بوكر البريطانية سنة 2016. 
©جميع الحقوق محفوظة لموقع المدن 2024