لميا جريج في "توشيم بيروت": الرسم.. لا التوبة عنه

روجيه عوطة

الخميس 2017/10/12
جاء في منشور غاليري "مرفأ" حول معرض لميا جريج المقام بعنوان "توشيم بيروت" (حتى 29 كانون الأول)، أن الأعمال تلقي الضوء على المراحل الأولى من مبحث واسع، ما زالت الفنانة في صدد إنجازه حول المكان البيروتي. أما مسعاها عبر هذا المبحث، فهو فك فضاءات المدينة عن خطاب التجزئة السياسي، كما أن استفهامها هو كيفية سمو وتفكير الفن فوق وخارج هذا الخطاب الذي يوصم الأغيار ويطلق الإتهامات عليهم.

وبالفعل، تلك الأعمال، ومثلما بدت على مختلف وسائطها، من فيديو ورسم وتصوير وتدوين، لم تكتمل بعد، بحيث أن المواضيع، التي تريد تناولها، تظهر من خلالها في بدئها أو في إقلاعها، إذ إنها غرض مشاهدة أكثر منه غرض تحديق أو توسُم.

على أن البدء، أو الإقلاع، لا يلغيان اللحظ إلى الأعمال، التي قد يصح تقسيمها بين أعمال صريحة في طرح مواضيعها، وأعمال موحية في تشكيلها. طبعاً، التصريح، هنا، يرادف الإدلاء المباشر، والإيحاء يساوي الكناية والإنابة.

إلى الجهة الأولى، ينتمي فيديو بعد النهر، وهو وثائقي قصير يتطرق إلى نهر بيروت على أساس مقابلات مع مالك إحد العقارات في جواره، ومع خلف، ناطور "مركز بيروت للفن"، وعمال البناء في ورش المباني المرتفعة في نطاقه، بالإضافة إلى مطبوعة "الأوزاعي، خرائط تحول"، وتصميم "الأوزاعي"، ورسوم "تواريخ صغيرة من الأوزاعي". فغالباً، ما تطرح هذه الأعمال، النهر أو الأوزاعي، إما عبر التسجيل أو التزيين، لكنها في الحالتين تشير إلى شرخ بين بغيتها من تناول مواضيعها وطريقة معالجتها لها، ولا تتوانى عن سدّ هذا الشرخ بنقل صوري أو تخطيطي يتأرجح بين التقرير، على منوال تلفزيوني، والمسح، على نهج سوسيو-هندسي، في حين أن التفنن يقتصر بضآلته على التحسين المتكئ على المادة والوسيلة، كالحبر النفاث والكريستال السائل، وقنوات HD.


إلى الجهة الثانية، تنتمي لوحات النهر وخط الساحل، التي من المتاح أو من الأجدى أن تكون محور المعرض وركيزته. ذلك أنها تبتعد عن التصريح، تسجيلاً وتزييناً، وتذهب إلى تناول مواضيعها على سبيل تشكيلي موحي، يكني الرسم عن التخريط، وينيب الجسد عن الأرض.

ولا تتوقف هذه اللوحات على خط مستقيم، أو مجرى دموي رأسي، بل إنها تبين شعابه، وتعرجاته، متمكنة منها، ومظهرةً شدتها. في هذا، تساعدها ألوانها الدقيقة في إيضاح غايتها، أي إحالة خط الساحل والأوزاعي والنهر إلى أوردة وأنسجة وتجويفات فيزيقية، تتنامى، وتركد، وتطفح من وقت إلى آخر. فإذا كانت الفنانة تريد أن "تترجم السرديات" التي تولدها الفضاءات بتحويلها إلى أشكال شاعرية، فقد أدركت مرادها في لوحاتها، التي بمقدورها، وعلى عكس ما تشيع التوبة المعاصرة عن الرسم، واستخفافها البصري به، أن تفضي بمواضيعها إلى مناظر ومقالب تغنيها، وتستخلص منها ملامح أخرى.

بعد ذلك، من الممكن القول أن مبحث لميا جريج الواسع، "تطريس بيروت-الأوزاعي"، وفي حال اختار الجهة الثانية، برسمها الموحي، لكي يواصل التقدم إلى مقصده، قد ينتج أعمالاً بوقع وأثر في متلقيها. وهذا لا يعني تنازله عن الجهة الأولى، بل مدّ الرسم إليها، وسحب شدته عليها، لكي تتلافى المشهد التقريري أو تكتفي بإستدانة المسح، والعمل على أساسه، بلا أي إضافة مكتملة، أكانت تزيينية أو غيرها. وبهذه الطريقة، بطريقة الإيحاء، كنايةً وإنابةً، من المحتمل أن يعلو الفن فوق خطاب التجزئة، وإذا لم يستطع ذلك، فعلى الأقل سينجح في الإعراض عنه قبل أن يحدق فيه من جديد.
©جميع الحقوق محفوظة لموقع المدن 2024