عصام محفوظ.. المسرحي الذي لم يغادر المدينة

محمد حجيري

السبت 2016/01/30
في السنوات الأخيرة من حياته، كان الكاتب والمسرحي والشاعر اللبناني، عصام محفوظ (1939- 2006) بشعره الأبيض وسيجارته الدائمة، ملازماً لشارع الحمرا (بيروت)، وتحديداً مقهى المودكا قبل إقفاله، ثم مقهى الويمبي (وسابقاً كان من رواد الهورس شو)، لدرجة أن كان يمازح الآخرين ويتمنى ان يكون منزله في مبنى المقهى حتى ينزل ويشرب القهوة بثياب النوم كدليل على كسله. لكن محفوظ، الاسم الثقافي، كان ناشطاً بامتياز في الكتابة والمعاصرة ومواكبة التحولات، بل والسبّاق في الكثير من الأمور والتنظيرات، خاصة في المسرح...

عصام محفوظ المتمرد والمثقف الشمولي وماركسي الهوى، تربى جيل بكامله على مقالاته التي كان يكتبها أو يترجمها وينشرها كل نهار سبت في جريدة "النهار" بتوقيع (ع.م)، عن شخصيات أدبية وفلسفية عالمية أو حتى تراثية عربية. كان سباقاً في الصحف في إعطاء أهميّة للمادة الأجنبية والشخصيات الثورية والتمردية والاشكالية والسجالية، يكتبها بطريقة غير تقليدية، هي أقرب إلى الأسلوب الحكائي السردي وأحياناً الحوار المتخيّل. ومنذ غادر "النهار" العام 1996، بعد خلافات مع بعض اقطاب الشعر في الجريدة كما قيل، ترك فراغاً في الصفحة الثقافية، وكان خروجه أشبه بالتقاعد والاستراحة الأخيرة. اذ بدأ يجمع مقالاته المطوّلة، ينسقها وينشرها في كتب، منها "حوار مع رواد النهضة العربية في القرن التاسع عشر"، "حوار مع المتمردين في التراث"، "حوار مع الملحدين في التراث، "حوار مع ابن عربي، "سجالات القرن العشرين"، سجال مع رواد "مسرح القرن العشرين"... مقدماً بأسلوبه المعهود رموزاً أساسية في ثقافتنا المسرحية المعاصرة: صموئيل بيكيت، برتولد بريخت، يوجين أونسكو، فريدريش دورنمات، ماكس فريش، آرثور أداموف، آرثر ميلر، جان أنوي، جون أوزوبرن، هارولد بنشر، هاينر مولر، وول سوينكا، جورج شحادة، أدمون بوند، عزيز نيسين، ألفرد جاري... عدا عن ترجماته لبول إيلوار ولويس أراغون، وتوقّف عند الشاعر الفرنسي أرثور رامبو الذي كتب عنه دراسة مغايرة بعنوان "رامبو بالأحمر" قيل أنها الأولى في موضوعها، ليس في العربية وحسب بل في كل اللغات، إذ لم يتناول ناقد من قبل شِعر وسيرة رامبو من خلال علاقته بعامية باريس (كومونة 1876)، وصولاً إلى جذور هذه العلاقة في خضم انفعال رامبو بالصراع الايديولوجي في عصره، في زمن انطلاق ما سمي "الاشتراكية الخيالية" أو الطوباوية في القرن التاسع عشر، وانعكاس هذه العلاقة على تفجره الشعري.

عصام محفوظ الآتي من بلدة مرجعيون - جنوب لبنان، والذي يعرف راهناً بأنه صاحب النصوص المسرحية التي ما زالت تقدم في الجامعات اللبنانية وفي مسارح بيروت بأساليب مختلفة، استهل بداياته الثقافية بكتابة الشعر، يروي المؤرخ جان داية أنه في العام 1959، هبط عصام محفوظ من بلدته، الى بيروت، واقتحم مكتب مجلة "شعر" قائلاً لرئيس تحريرها يوسف الخال: انا عصام محفوظ. وقبل ان يسأله الخال عن الهدف من زيارته، قدم له مجموعة من قصائده، وقفل عائداً، على حد وصف الخال للقائه الاول بمحفوظ.

قرأ الخال القصائد الثلاث للشاعر الذي لم يتجاوز العشرين من العمر، فبشّر ادونيس وأنسي الحاج وشوقي ابي شقرا ومحمد الماغوط والآخرين، خلال احدى جلسات "خميس شعر"، بولادة موهبة جديدة. وسرعان ما ظهرت "العيون الباردة" و"موسيقى كئيبة" و"المقعدة"، في مجلة "شعر" عدد سبتمبر (ايلول) 1959، وظهر في ابياتها الحزن الذي رافق الشاعر طيلة سنوات عمره الـ67. في "العيون الباردة" يقول الشاعر، الذي مات عازباً، "لابنته":

كفى يا ابنتي! اغلقي النافدة

على مهلٍ.. في عيون الحبيب

وفي وشوشات المساء الغريب

تمر الرياح.. تمر السنون

ويمضي النواح.. وتمضي الشجون

ولم تكن قصيدة "موسيقى كئيبة" اقل كآبة

والولد النحيل

يداعب الجروح في القميص

باصبع نحيل

والنار في العيون لا تموت

والمطر المنساب في سكوت

يبكي في زاوية الشباك

يبكي على زنبقة حمراء

في علبة مزروعة هناك

في موقد الاضواء

ولم يمض وقت حتى التحق محفوظ بمجلة "شعر" وأصبح من اعضائها البارزين، ونشر أول دواوينه العام 1959 بعنوان "أشياء ميتة"، ثم "أعشاب الصيف" (1961)، و"السيف وبرج العذراء" (1963)، و"الموت الأول" (1973) ويتضمن مجموعة منتخبة من قصائده. وكان أعلن هجرانه الشعر نهائياً إلى لغة تعبير جديدة، هي المسرح، بُعيد هزيمة العام 1967، وكتب آخر قصائده "وداع الأيام الستة" وبها "تخلى" عن عالم الشعر منتقلاً الى المسرح وبادئاً مرحلته الثانية، معتبراً أن المسرح اكثر قدرة على التعبير من الشعر. وكتب بيانه - المانيفستو الشهير،"بيان مسرحي رقم واحد"، المنشور لاحقاً في مقدّمة مسرحيّته "الزنزلخت" 1969. أراد محفوظ أن يؤرّخ للتجربة، ويعلن ولادة اتجاه جديد... في بيانه الحرب "ضدّ الاتفاق، ضد التقليدية، ضدّ التفاهة، ضد الكسل، ضد اللامسرح". إنّها حرب تجعل أعماله عند "الحد الفاصل بين النص الأدبي والنص المسرحي... إنني ضد الكلمة الشعرية في المسرح، ضدّ الحذلقة الذهنيّة، ضدّ البلاغة، ضد الخطابة، ضد الغنائيّة، ضد الفكر، ضدّ كلّ ما يقتل الحياة في اللغة المسرحيّة". يرى عصام محفوظ أن على المسرح "أن يتحيز لموقف، وأن يبدأ هذا الموقف من الواقع، مستخدماً أول عناصر هذا الواقع: لغته، اللغة المحكية، لغة الشارع والبيت، لغة القبضة والشجار".

وحمل سعدون، بطل "الزنزلخت"، ملامح البطل اللبناني والعربي، السلبي والوجودي، الذي يحاكمه مجانين في مصح على جريمة لم يقترفها. بعد هذه المسرحية توالت اعمال اخرى: القتل (1969)، و"الديكتاتور" وقد كانت بإسم الجنرال عند تأليفها، وبعد المرور التقليدي والإجباري على الرقابة، طُلب من عصام محفوظ ألا يدين رتبة الجنرال، فاستُبدِل اسم الجنرال بالديكتاتور. ويقول محفوظ: "نزعت عن الجنرال الصفة العسكرية… لأن هناك أكثر من ديكتاتور مدني حاكم في العالم، على الأخص في العالم الثالث". وتقوم فكرة المسرحية الديكتاتور، على تعرية لصورة الديكتاتور أو فضحه. نراه مريضاً ومضطرباً يتوهّم أنّه المنقذ الذي تنتظره البشرية وأن ثورته هي التي ستغير العالم. من دون شك أن هذا يعتبر سبقاً في تجربة محفوظ، في المقابل نجد أن الرواية العربية تأخرت كثيراً حتى تطرقت الى الديكتاتورية كما حصل في اميركا اللاتينية، وربما تعتبر رواية "عالم صدام حسين" لمهدي حيدر(اسم مستعار)، توطئة للرواية العربية عن الديكتاتور العربي...

ولعصام محفوظ مسرحيات أخرى منها "كارت بلانش"، "لماذا؟" اما آخر مسرحية كتبها قبل الحرب فكانت "حسن والبيك" وكانت عبارة عن مونولوغ او مونودراما، وأداها حينذاك "شوشو" (حسن علاء الدين). وما يلفت النظر هنا هو كون محفوظ أول الداعين إلى الابتعاد عن اللغة الشعرية في المسرح، وهو الشاعر، وأول من خطا في لبنان الخطوة الحاسمة لفصل النوع المسرحي عن النوع الأدبي. وهو برأي الناقدة خالدة سعيد، كاتب أول مسرحية قابلة للعرض على الخشبة، تتعامل مع القضايا والمواقف الإنسانية والفكرية التي صدرت عنها الحركة الحديثة، من دون أن يجيء ذلك من خلال العبارة الأدبية والتعبير المجرد، بل من خلال المشهد والموقف المسرحي وبناء الشخصية وعلاقات الشخصيات في ما بينها وبناء المشاهد. وتجربة محفوظ الفريدة في لبنان، جعلت الكاتب أسامة العارف يقول: "قبل محفوظ كان النص المسرحي أدباً يتوقف على باب المسرح ولا يدخله"...

بحسب العارفين والمواكبين لمسيرة عصام محفوظ، فقد دفعته هزيمة حزيران الى هجران الشعر والتحول الى المسرح، وأتت الحرب اللبنانية لتصدمه وتجعله يغادر المسرح وينصرف إلى الصحافة. وبعد صدور مسرحية "قضية ضد الحرية" (1975)، وعند اندلاع الحرب الأهلية اللبنانية، غادر محفوظ بيروت إلى باريس حيث أقام حتى العام 1981. وعلى الرغم من نشره العام 1984 مجموعة "مسرحيات قصيرة" ثم مسرحية "التعري" (2001) إلا أنه كان فعلياً قد فقد اندفاعه لدور المسرح التغييري عقب تجربة الحرب ونتائجها.

وبعد نهاية الحرب اللبنانية، قُدمت مسرحيات محفوظ بأساليب متنوعة، من قبل طلاب ومخرجين لبنانيين، منهم عبلة خوري، لينا أبيض، لينا خوري، وشارل ديك وغيرهم... ولم تنج مسرحية "لماذا رفض سرحان سرحان ما قاله الزعيم عن فرج الله الحلو في ستيريو 71؟" التي قدمتها لينا خوري قبل مدة في مسرح الجامعة اللبنانية الاميركية، من التحريض الطائفي من اجل منعها بحجة أنها تمس المقدس...


(*) دعا برنامج انيس المقدسي للآداب ـ الجامعة الاميركية في بيروت، مركز التراث اللبناني ـ الجامعة اللبنانية الاميركية، مسرح المدينة ـ بيروت، الى لقاء خاص حول "عصام محفوظ بين لغة الشعر ولغة المسرح"، لمناسبة الذكرى العاشرة لغيابه، وذلك في قاعة بطحيش ـ الوست هول ـ الجامعة الاميركية في بيروت، الساعة 6،00 مساء الاربعاء 3 شباط/فبراير2016.


وفي البرنامج:
أي «غودو» كان ينتظر؟ (هنري زغيب)، «مسيرته» في مجلة «شعر» (عبده وازن)، "لا.. لم يكن عبثياً" (عبيدو باشا)، قراءات من قصائده (جهاد الأطرش)، اسكتش «أم عبد الله» ـ نضال الأشقر ورفيق علي احمد، و"عصام محفوظ كما أتذكره" (نضال الأشقر).

©جميع الحقوق محفوظة لموقع المدن 2024