"بيت البحر" لروي ديب: مساءلة ماضٍ مُعلّق

محمد صبحي

الأربعاء 2017/05/17
في لحظة ما من "بيت البحر"، يأخذ شخصيات الفيلم في السير على صخور الشاطيء في دوائر، كأنما يفعلون ذلك بنظام محدد، ويطول المشهد دون أن تتحرك الكاميرا ومن دون أن تحاول حتى توسيع عدستها ليرى المشاهدين بقية ذلك المسار الذي تتبعه الشخصيات في دورانها عديم الهدف. مشهد مشابه يمكن العثور عليه في رواية لبنانية تحمل في عنوانها بيتًا آخر، هي رواية "البيت الأخير" لربيع جابر، حيث يشرع بطل الرواية في لحظة ما في تساؤلات داخلية حول مصيره وطريقه الذي يتخذه في الحياة، يقول لنفسه انه إذا تحرّك من النقطة أ إلى النقطة ب فعليه أن يمرّ بالنقطة "ج"، وما بين النقطة "أ" والنقطة "ج" ستكون هناك نقطة أخرى بالتأكيد، وهكذا إلى ما لانهاية. في الفيلم، يتساءل أحدهم، بعد عدد محترم من الدورات المنقضية، عمّا يفعلونه بالضبط، لتردّ عليه شخصية أخرى بتفلسف: "ننتقل من نقطة إلى أخرى". هذا أحد المشاهد المفتاحية لفهم ذلك الفيلم الذي يحاول ألا يقول أي شيء بطريقة مباشرة، تمامًا مثل شخصياته الأربع المتخبطة في زمن مائر بأسئلة جديدة وأسئلة معلّقة منذ زمن، الباحثة عن معنى لكل هذه الدراما الطارئة بحياتها، والساعية للتخفف من حمل ذلك كله، ولو مؤقتًا.

في "بيت البحر" أول أفلام روي ديب الروائية الطويلة، تتنازع حكاية الفيلم أربع شخصيات، رجلان وامرأتان، يلتقون على مائدة واحدة ذات ليلة صيفية، ويدخلون في لعبة مكاشفة وإخفاء تحوي كثيرًا من الفوضى. أولى الشخصيات التي يلتقيها المتفرج هي الأخت الصغري ريّا (ساندي شمعون) التي تدعو اثنين من أصدقائها الجامعيين القدامى، رواد (جوليان فرحات) ويوسف (رودريغ سليمان)، لقضاء أمسية في منزل العائلة البحري. في ابتعاد الثلاثة عن بعضهما البعض لسنوات، يُظهر الفيلم حالة من التململ وعدم الارتياح تنتاب الرجلين أثناء أداء ريّا المغناج لأغنية "سونة يا سونسن" لشادية أمام باقي روّاد السهرة، قبل أن تطلب ريّا من شقيقتها الكبرى ليلى (نسرين خضر) الحرص على إبقاء صديقيها ريثما تنتهي من الغناء. في المطبخ، حيث تلقي ليلى بكذبة خطيرة لاستبقاء رواد ويوسف، تبدأ عملية الإفصاح والتعرّف على الآخر، ويبدأ عمل سينمائي مميز من جانب روي ديب وشريكه في كتابه السيناريو رأفت مجذوب، بالاستناد إلى قصة قصيرة بعنوان "التضحية" لزياد بوعقل، يعتمد على مراوحة ومناكفة استجابة وخيال المتفرج. فمع تطوّر القصة وتزايد عدد خطوط الكوكايين وكؤوس الويسكي المستهلَكة، تأخذ الشخصيات في فتح سجالات تمارس من خلالها تعرّياً ذاتياً، لنتكون قادرة على تحديد شروطه أو السيطرة على مساره.

ورغم اعتماد الفيلم ظاهريًا على المحادثة بصورة تذكّرنا بفيلم حديث مثل "غرباء كلية"، إلا أن الصورة السينمائية فعّالة بشكل كبير في سرد الحكاية والتأسيس للتشويق في مشاهد من دون حوار منطوق. ينجح المصوّر كريم غُريّب في تزويد الفيلم بحالة من الترقب والغموض تفرض على المتفرج الانتظار لمتابعة ما يمكن أن تسفر عنه حكايات هؤلاء الأربعة الذين يمثلون "جيلاً عربياً تائهاً". فبينما لا تداوم الكاميرا على إظهار الوجود الكاملة للشخصيات أثناء المحادثات مكتفية أحياناً بإظهار جزء منه أو التركيز على أجزاء من الجسد أو متطلباته (مشروبات ومأكولات)، في المقابل فإن ما تُظهره الشخصيات في حكاياتها، والتي ليست بالضرورة حقيقية، عن نفسها ومشاعرها، يتوازى مع عمل الكاميرا المتلصّصة التي تفضح وتخترق وتكشف ما يريد هؤلاء استمراره مخفياً.

لعبة التلصص يدخلها المتفرجون، مثلهم في ذلك مثل رواد، الذي يجبر الأختين على مواجهة بعضهما البعض ضمن شروط معينة يفرضها هو، ليتابعهم وعلى وجهه تعابير راضية وتطلب المزيد. وإذا كانت الكلمات غير موثوقة أو لا تحمل صدقاً كاملاً، فإن الكاميرا تلتزم بالتقاط لحظات من الحميمية والتوتر الجنسي والنفسي، تجعل لعبة التلصّص التي يمارسها الفيلم بتوفيق مطرَّز، ذات طبقات متعددة. تبدأ من عمق الصورة وشخصياتها مرورًا بعلاقتهم بالكامير او من ورائها المشاهدين وصولاً إلى صورة أكبر تبدو فيها مسائل الهوية والانتماء والفن والجنس مسارات مفتوحة أمام أشخاص يتعجّلون كتابة قيامتهم، أو يحاولون مساءلة الحياة في ماضٍ منتهٍ.


غير أن القيمة الأبهى لفيلم ديب يمكن ردّها إلى سلاسة ومرونة الفيلم بحيث يمكن سحب تلك الأمسية ووقائعها إلى مصر أو غيرها من الدول العربية التي تتشابه في بنياتها وفي مشكلاتها مع لبنان -رغم تفرّد هذا الأخير بعدد منها دونًا عن بقية دول العالم. فنحن أمام أربعة شباب في منتصف ثلاثينياتهم، وعلى الأغلب تتوزّع علاقاتهم بين الصداقة والحبّ والأخوّة، يدخلون في نقاشات متفرّعة عن كل شيء تقريبًا، في إطار محاولة سينمائية للوصول إلى فهم جذور العلاقات الإنسانية وامتداداتها في انحيازات كل منهم واختياراته، وهم في النهاية أبناء الحرب التي طبعت طفولتهم وتركت آثارها علاماتها على حياتهم واختياراتهم.

رواد، فنان الفيديو، يتوه وسط مشاريع فنية لا تنتهي ولا تكتمل ويسعى لوضع لمسته على القضية الفلسطينية بإنجاز فيديو مشترك مع فنانة إسرائيلية لا تتجاوز مدته العشر دقائق. أما يوسف، فلن تمنعه هويته الجنسية المثلية من إعطاء محاضرة عن "القضية" وحياة المخيمات وتعنيف حبيبه على نيّته العمل مع فنانة إسرائيلية. وعلى العكس منه، ستقوم ليلى بكلمات قليلة وواثقة، بنسف كل المرويات الحالمة والنوستالجيّة التي ربما يستدعيها ذكر أسماء مثل شفيق عبّود ورفعت الجادرجي وإيتل عدنان وفؤاد الخوري، أصدقاء والدها الراحل، وتنجح في بصق ما يمكن بصقه في وجوه المشاهدين من تنظير وسفسطة تلائم طبيعتها المسيطرة والساعية دومًا للتحكم بالأمور. من جانبها، تقوم ريّا بممارسة سلطتها على مستمعيها الأسبوعيين بأغنيات من اختيارها بعدما فشلت أو تكاسلت عن استكمال دراسة الرقص في فرنسا لتعود وتكتفي بـ"غطاءات" لأغانٍ قديمة تؤديها على طريقتها في بيت على البحر الذي يمكنك أن ترى منه يافا ودمشق ويتيح لأصحابه وزائريه معاودة ما فاتهم في أزمنة منقضية.

إنها حكاية مفتوحة على الماضي وأوهامه وخياراته وآثاره، تنتقي شخصياتها في نصّ سينمائي ذكي يتجاوز الأسئلة المعمّمة لينفذ إلى دواخل شخصياته، تاركاً لها الطريقة التي ترغب في تقديم نفسها والبوح عن أسرارها، وفي الوقت ذاته يرصد ويؤشر على المتروك والمخفي من سردياتها، خوفاً أو تكتماً، فاتحاً الطريق لمزيد من الارتباك والأسئلة المعلّقة المرهونة بزمانها وباحتيال أصحابها على ذواتهم.


(*) عُرض "بيت البحر" مؤخراً في القاهرة والإسكندرية ضمن فعاليات "أيام القاهرة السينمائية".

©جميع الحقوق محفوظة لموقع المدن 2024