جورج هاشم في حيرته الفلمية

روجيه عوطة

السبت 2018/01/13
على الرغم من كون فيلم جورج هاشم "نار من نار" يتضمن فيلماً غيره داخله، لم يذهب إلى إحراز قول سينمائي يكون منسجماً مع إرادة تشكيله، فيجعلها خفيفة الوطأة والمجاهرة. والحديث، هنا، عن إرادة التشكيل يتعلق بأن الفيلم، بمجمله، وعلى طول وقته، لم يتوقف عن إبراز متاهته، التي لاحت في بدايته ضرورية لانطلاقه قبل أن تلتف لاحقاً عليه، فلا يعود بمقدوره مبارحتها، لا سيما بعد أن تغدو قوامه الأول والأخير. وعندها، يكتفي بها، وبمضاعفتها. وعندها، أيضاً، يبدو أنه يدور في نفسه. ثم، يتوقف من مغبة تفاوته معها.

ولكن، المتاهة، التي انتابت هذا الفيلم، فعزم عليها كأنه يعزم على عضادته، تفقد أمراً بعينه، هو، في الأساس، علة وجود كل المتاهات: التوهان، الذي ينتجه تعقب لشيء ما لا يمكن تحديد عنوانه، صحيح، ولكن، من اللازم الإلمام به. فالتوهان بديهياً ودائماً هو توهان من بغية، الطريق إليها مجهول، إلا أنها معروفة.

متاهة "نار من نار" لا تستند إلى هذا التوهان، ترتكز على نوع هزيل منه، نوع قريب من التخبيص، حيث البغية مجهولة، والطريق، مهما غمضت واستبهمت، لا تصير على اسمها، لأنها، وببساطة، جامدة ومجمدة، أي أن التحرك عليها ومنها معطل. فكل الوقائع في الفيلم لا تودي، ولا ترد، تجري كأنها تنفي جريانها. وهذا لا يضيف قيمة عليه، على العكس تماماً، إذ يشير إلى أنه يرتطم بذاته. ذلك، أن الفيلم لا يستطيع أن يكون فيلماً. ولهذا، يتناول فيلماً فيه، ولما ينصرف منه، كمعروض، سرعان ما يرجع إليه، كمؤثر خارجه، قبل أن يقفل إلى شاشته من جديد، وهذا إلى أن ينقطع معه.

فعلياً، ليس هناك فيلمان أو أكثر في الفيلم، هناك فيلم واحد، يتوزع على عرضه، وأثره، لكي يخفي تعثره. فهذا الفيلم هو فيلم هاشم، الذي يتسم بالتردد، والذي، لأجل أن يملأ فراغه، يفرط في الأفلمة الداخلية، وذلك، كي لا يتكشف عن كونه الفيلم. هذه ليست حيلة، بل حيرة فنية، استفهام تبديدها واضح: ما هي البغية من هذا الفيلم، من "نار من نار"؟ لا يظهر أن هاشم طرح هذا الاستفهام، بل غيره: كيف أستر أن إخراج فيلمي مستعصٍ؟ الجواب: أوزعه كأفلام داخله، ومع كل إشارة إلى فيلم منها، أشدد على أنه ليس فيلمي، لا سيما أن مرجعه الجواني هو تاريخ السينما في العالم.

يحتوي "نار من نار" تعليقاً انتقادياً على لسان فادي أبي سمرا (وليد، إيلي من تأدية رودريغ سليمان على الشاشة). إذ إنه، ولما يأتي إلى السهرة التي يدعوه إليها صديقه المخرج وجدي معوض (أندريه، محمد من تأدية رامي نيحاوي على الشاشة)، يخبره عن رأيه في فيلمه، الذي يتناول قصتهما في الحرب، والذي شاهده للتو، يقول له إنه سيء، وسبب ذلك هو أنه ينطوي على كثير من الكليشيهات.

رأي أبي سمرا سديد، وهو لا يطاول الفيلم، الذي شاهده، "نار"، بل الذي مثل فيه أيضاً، "نار من نار"، والذي يدرج احتواء لانتقاده في سياق الحيرة الفنية إياها. فهذا الفيلم، وفي حال وضع تشكيله "التوهاني" جانباً، لا يبقى منه سوى الكليشيهات، التي تحدث أبي سمرا عنها، والتي من الممكن رفدها بغيرها: حوارات تدعي النطق بمغزى، إلا أنها بعيدة عنه حتى لو وارت ذلك خلف لازمة "متل ما حبيتني مبارح كتير انبسطت بس بعدين ما قدرت نام، طلعت عبالي بس ما استرجيت وعيك"، تمثيل متوتر ينعطف على تكلم ثقيل وعلى إيماء مسرحي، كما في وضع معوض. مع الإشارة إلى تمكن نيحاوي وأبي سمرا ونصري الصايغ من شخصياتهم، موسيقى تشويقية متماسكة (زاد ملتقى)، لكنها، وفي كثير من الأحيان، بلا داعٍ من جراء التباين بينها وبين المشاهد، الكلام عن تجاوز المحرمات. وكل هذه الكليشيهات، لا تزيلها المتاهة، لكنها، تسمح لهاشم أن يقول إنها لا صلة لها بفيلمه، لأنها فيلم "أندريه ملاط".

عندما يتحدث هاشم عن جمهور المتلقين، يقول إنه يريد إشعارهم بأن الفيلم هو فيلمهم، بحيث يشاهدونه كأنه يستولي عليهم، فيذهبون إلى فهمه كأنهم يحلون لغزاً. لكن، فيلمه مغلق على متاهته، مغلق بالكامل. ومشاهدته لا تطرح على فاعلها أي لغز، بل تشير إلى أن صناعة هذا اللغز متعذرة، إلى درجة أنها لا تنتجه كحزورة حتّى. لقد تاه فيلم جورج هاشم من بغية واحدة، وهي التلطي على كونه فيلماً محتاراً. على أن لحظة المتاهة في الفن هي عادةً لحظة تسجيل ضائقة، وهي، في السينما اللبنانية، ضائقة فعلية ومتفاقمة، لكن، التعامل معها بتقليد الإفراط في الأفلمة، لا يؤدي سوى إلى إخراج فيلم مسدود.

©جميع الحقوق محفوظة لموقع المدن 2024