حاوره: محمد حجيري
* نعم هناك هوية ثقافية جامعة، لا للعراق وحده، بل لجميع الدول العربية أو الناطقة بالعربية. فثقافتنا واحدة حتىّ في أشدّ التفاصيل صغراً. فلو أنّك ذهبت إلى قرية مغربية نائية وسألت أهلها عن أسماء الأدوات المنزلية التي يستخدمونها وكيفية استخدامها لوجدت أنها لا تختلف حتى في الأسماء عن الأدوات المنزلية التي يستخدمها سكّان القرى اليمنية أو العراقية أو اللبنانية. فهناك وحدة ثقافية وأنثروبولوجية مشتركة، بما في ذلك العلاقات الإنسانية. ومشكلتنا هي أن ليس هناك دراسات ميدانية تثبّت هذه الحقائق، فقد ولى زمن الجاحظ والتوحيدي والأصمعي وابن منظور، ولم يعد هناك من يهتم بأمر التدوين. وثمّة مبدأ عام ينطبق على العراق والعالم العربي برمته وهو أن الحربّ تفرّق دائماً، أمّا النجاح والتفوّق فيجمعان الناس كلّهم. وهذا ما نراه في النجاحات الفنيّة والرياضية، فخذ فيروز مثلاً بدلاً من شذى حسّون، فسترى أنّها وحدت اللبنانيين المحتربين فيما بينهم وجعلت ذوقهم الغنائي واحداً على الرغم من اختلاف مشاربهم ومساربهم الحزبية والطائفية والحربية. ويقال عادة إذا ما ابتليتم بالمعاصي فاستتروا، وعندما يبتلي الناس بالحروب الطائفية فإنهم يجدون ملاذاً في كلّ ما هو جميل ونبيل. ونحن نشدد عادة على عناصر الوحدة والوطنية القائمة على أبعاد إنسانية وجمالية وليس على أسس عرقية وطائفية. والعراق بلد مزقته الحروب والحصارات والعمليات الإرهابية الموجهة من الخارج. وهذا يعني أنّ تدمير العراق جاء من الخارج بالدرجة الأولى، أي من تدبير الولايات المتحدة الأميركية وإيران والسعودية وإسرائيل ودوائرها. وعلاج هذا التمزّق والتشرذم هو شأن داخلي. فلماذا لا يتفقّ "شيعة" العراق مع "سنته"، وعربه مع أكراده؟ وهل أن العراق يختلف من حيث تعدد القوميات والأعراق عن تركيا أو إيران أو الهند مثلاً؟ فكيف يأخذ عنّا التركي دينه ويأخذ عنّا الفارسي دينه، أو شيعته، ثم يرجعان لنا بضاعتهما على شكّل احتلالات ومجازر وأنهر من الدماء؟ وأعتقد أنّ هناك خللاً ما كبيراً في عقلية العربي، والعراقي بصورة خاصةً، وربّما يحتاج العراقي إلى إعادة تربية وتأهيل من جديد. أمّا المقارنة بلبنان فهي لا تصلح، حتى وإن تجاوز العراقيون بوحشيتهم اللبنانيين إبّان حربهم الأهلية. والسبب في ذلك يعود إلى أن لبنان أخفق، ومنذ تأسيسه، أن يكون دولةً طبيعيةً موحدة، فبقى ممزقاً من الداخل ومرقعاً إلى يومنا هذا، وتنهش جسده العصابات المسلّحة والميلشيات والأسر الإقطاعية المتنفّذة.
- تقول إن انتماءك إلى العراق ثقافي بالدرجة الأولى، هل للعراقي خصوصية ثقافية، وماذا عن ثقافة المنفى الألماني؟
* هذا يعني ببساطة بأنني لست شيعياً أو سنيّاً أو مسيحياً أو صابئياً أو مسلماً أو علمانياً، إنما عراقي قبل كلّ شيء. والعراق غنّي جدّاً في تنوعه الثقافي والتاريخي. فنحن نكاد نغرق في هويتنا الوطنية من فرط امتلائها، لأنّ هذا البلد هو مهد الحضارات والديانات والأساطير والثقافات والفنون. لكننا، وبسبب هذه الغنى الثقافي، لا نكاد نرى السبيل الصحيح للوحدة الوطنية، فمن كثرة الأشجار لم نعد نرى الغابة، مثلما يقول المثل الألماني. بالطبع أن العراق ليس أرضاً وجغرافية فحسب، إنما مشاعر داخلية وذكريات ومعايشات نحملها معنا إلى المنفى و إلى كلّ مكان آخر. فنحن لم تتح لنا الفرصة بعد لكي نتلمس آثار ماضينا لتصبح جزءاً من ثقافتنا المهددة. وحجم الكوارث والتدخلات الخارجية والحروب في العراق يبرهن على عمق الهوية الثقافية لهذا البلد، وإلا لما سعت القوى الشريرة لتدميره منذ اجتياح هولاكو إلى تيمورلنك إلى العثمانيين والفرس والإنجليز وانتهاءً بالأمريكان. ومن ناحية ثانية فإن تجربة المنفى الألماني تخبرنا بأن الجسد هو الذي يرحل وينفى، أمّا الروح فتبقى متشبثة بالوطن إلى الأبد. وكان هاجس الوطن يسيطر على الكاتب الألماني الشهير توماس مان في منفاه، فكان يقول إنّ ألمانيا تحضر تكون حاضرةً دائماً حيث أقف أنا.
- لماذا لم تقدم صورة جلية عن أيام منفاك في ألمانيا في الكتاب، كيف كانت نظرة الألمان إليك كعربي أو عراقي، كيف تخطيت "الجمر والرماد" في المنفى؟
* وضعت كتاباً باللغة الألمانية عن تجربتي في المنفى والكتابة بلغة أجنبية تختلف تماماً عن اللغة الأمّ. ولم يكن هدفي في كتاب "أعوام الجمر والرماد" وضع سيرة ذاتية، بل أردت التعرض إلى قضية العودة إلى الوطن، فجاء الكتاب على شكل محاولة للاقتراب من الوطن، أي أنّه كان من حيث المادة على العكس تماماً من المنفى. وعندما أتيت إلى ألمانيا، قادماً من بيروت الحرب الأهلية، كان ألمانيا مجزأةً إلى شطرين متحاربين ومتعاديين ومتناقضين أيديولوجياً وثقافياً واجتماعياً. لكنّ الألمان نجحوا بعد ذلك في تحقيق الوحدة بشكل سلميّ وأعادوا بناء دولة كانت منهارة بالكامل وهي ألمانيا الشرقية "الديمقراطية" التي لم تحصد البشرية من تجربتها سوى الخيبة والإحباط. وأصبحت حتى مفردة الشيوعية أو الاشتراكية مدعاة للسخرية، إنّ لم نقل القرف. وأنا كنت شاهداً على التحولات، ودوّنت أحداث تلك الفترة في كتاباتي. وهذا ما جعلني ازداد يأساً ومرارةً، لأنّ الألمان حققوا جزءاً كبيراً من هدفهم التاريخي وهو توحيد بلدهم ومن ثمّة أوروبا وجعلها تحت قيادتهم، اقتصادياً على الأقل، بينما فشل العرب تماماً في تحقيق أيّ شكل من أشكال الوحدة أو الاتحاد أو حتّى التعاون الاقتصادي والتبادل الثقافي، بل دخلوا في حروب مجانية ضد بعضهم البعض وبددوا ثرواتهم الطبيعية وحطموا مستقبل أبنائهم وهزموا شرّ هزيمة أمام "عدوهم" التاريخي، ونعني به إسرائيل. والألمان قدموا لنا دعماً كبيراً فوفروا لنا الأمن والحماية من بطش نظام صدّام وأتاحوا لنا الفرصة في الدراسة والتعلّم حتى أصبحت كاتباً ألمانياً وصرت أنشر في كبريات صحفهم. ومع ذلك فهم لا يريدون أن تدخل معهم في حوار متكافئ، أو نقاش ثقافيّ أو سياسيّ، خاصة في ما يتعلق بالصراع العربي-الإسرائيلي. ولا يريدون أن تكتب لهم تاريخهم، مثلما يكتبون لك تاريخك، ولا يريدون أن تحوّلهم إلى موضوع أو مشروع، بل إنّهم يرون فيك الضحية التي أنقذوها ذات يوم من سيف الجلاد العربي؛ ثمّ إن الألماني يدرك بأنّك أعزل ومنفي وأجنبي، ومحارب من قبل دولك وأبناء جلدتك ربّما. ومثلما ترى فإن حوارنا أو "حربنا" مع الآخر في المنفى أشدّ ضراوةً من حربنا داخل أوطاننا. أوطاننا!
- بعد خروجك عن مسار الأيديولوجيات والجماعات، فهل ما زلت تستعمل الأدوات الماركسية في كتابتك ام تجاوزتها؟
* تعلمت من ماركس النزوع إلى التمرد والثورة والتحليل، فهو حسب تعبير رفيقه فريدريش إنجلز رجل ثوريّ بالدرجة الأولى، وليس منظرّاً. ومازلت أدوات التحليل الماركسي، وخاصة فيما يتعلق بطبيعة رأس المال والاقتصاد السياسي – نحن نعلم بأنّ المصرف الاحتياطي الأميركي هو الذي كان يموّل حروب الولايات المتحدة، وليس نفط العرب وحده – فكان ماركس يعلم تماماً ما الذي يعنيه رأس المال وكيف أنّ أصحابه لا يتورعون عن إبادة شعوب بأسرها من أجل مضاعفة الأرباح. وكانت الشركات العملاقة تمول حروب الدول الغربية، ومنها شركة الهند الشرقية التي ساهمت في احتلال العراق. وانتقد ماركس أيضاً قادة "كومونة باريس" في كتابه عن "الحرب الأهلية في فرنسا" لأنّهم لم يؤمموا البنوك. وانتقد كذلك الحزب الاشتراكي الألماني الذي تخلّى عن مبدأ الثورة وأصبح حزباً براغماتياً انتفاعياً مثلما نراه اليوم في ألمانيا وأوروبا كلّها. فكان ماركس ثاقب البصيرة ودقيق الملاحظة. وعندما اجتاحت الأزمة الاقتصادية العالم الغربي سارع الناس إلى قراءة ماركس مجدداً والاستعانة بتحليلاته. غير أن النتائج التي توصل لها ماركس لم تكن صحيحة وليست ملزمة لأيّ أحد، فلم تحدث مثلاً ثورة عمالية شاملة في أوروبا الغربية مثلما تكهّن، ولم تتحقق العدالة الاجتماعية ولم تتحد الطبقة العاملة العالمية، ولم تكن الطبقة العاملة مهيئة أصلاً لإقامة نظام اجتماعي عادل ومتكامل ومتكافل مثلما كان يحلم كارل ماركس. فضلاً عن أنّه غيّب الوطن والثقافة المحليّة والخصوصية التاريخية لبعض الشعوب والبلدان. والمهم هو أننا لسنا في معرض تقييم ماركس أو انتقاده، إنما نؤكد على أنّنا ما زلنا نعتمد عليه في التحليل الاقتصادي والسياسي مثلما نعتمد على نيتشه في التمرّد على النظم والقوانين وعلى فرويد في تحليله النفسي وتأكيده على أهمية الجنس وعلى هايدغر في تحليله للبعد الوجودي للإنسان المعاصر وقضية الحياة والموت وغيرهم من الفلاسفة والمفكّرين، والألمان خاصةً.