مشاريع الإكتئاب

روجيه عوطة

الجمعة 2017/04/21
غالباً ما يسمع المرء أحدهم في الوسطين الثقافي والفني يقول لرفاقه: "أعمل على مشروعي"، أو "لدي مشروع أعمل عليه". وقد تكون عبارته هذه بمثابة نشيده، الذي يردده خلال فترة طويلة وأينما كان، قبل أن يعود ويؤكده حين يقدم "مشروعه" إلى المتلقين، مشدداً على كونه قد "عمل عليه" طوال عام أو عامين، وربما، أكثر. على أن التحديق القليل في هذا "المشروع"، أو منتجه الأخير، أكان نصاً أو فيلماً أو عملاً فنياً من أي نوع، يفيد بأنه، وفي حالته القصوى، بخس وأخرس ومقفل على خلائه من المعنى.

عندها، يصير السؤال أمامه: لماذا احتاج صاحبه إلى كل هذا الوقت لكي ينجزه؟ فهو حين كان يخبر عن "مشروعه"، كان يفعل ذلك بنبرة تشي بكونه يستلزم الكثير من البحث، والجهد، والإعتناء، لكي يبلغ حصيلته. لكن، ما يجيء به "المشروع" إياه يخالف لتلك النبرة ومشهدها، بحيث لا يفضي سوى إلى حصيلة طفيفة، ومدقعة، وفي الكثير من الأحيان، تستعطي المتلقين لكي يوفروا دلالتها، كما لو أن واجبهم أن يتمموا ما لم يبدأه صاحب "المشروع": القيام بما لم يقم به، أي القيام بعمله.

بهذا، لا ينم "المشروع"، وفي إثر حصيلته، سوى عن وضع الإكتئاب، بحيث أنه مجبول به، لا من أجل أخذه كموضوع معالجة، أو كموضع إبصار، وبالتالي، لا من أجل التحضير والتجهز لمبارحته، بل تعلقاً به، واستسلاماً له. ذلك، أن هذا الوضع يتيح لأصحاب "المشاريع"، الذين قد يجهلون أو يدركون وجودهم عليه، بما قد يعتقدون بأنه "نعمة" من عندياتهم، وهي ما حددها الكاتب فيليب ناصيف مرةً بأنها "دوخة من التفكرات النظرية"، الواحدة منها قد لا تقل أهمية عن الأخرى، لكنها، بمجملها، "تمنع عن الذهاب إلى ممارسة أي عمل".

فكما أن تلك "النعمة" بمثابة "دوخة نظرية"، من الممكن أن تغبط المعترين بها، غير أنها، وبالإضافة إلى ذلك، هي مقرونة بمزاجهم العدمي، الذي ينطوي على الخوف، والهزء، بالإضافة، إلى الكسل. وعندما يطبعون "مشاريعهم" بهذا المزاج، يخافون من خوضها فعلياً، ويتكاسلون في إنجازها، ويستهزئون من المتلقين بمنتجها القحل، طالبين منهم أن يأخذوا "فكها" على عاتقهم. وهذا، خصوصاً إذا كانت دوارة، إذ يحتفظ صانعوها بأفكارهم عنها في رؤوسهم، وبالتالي، لكي يفهم المتلقون "مشاريعهم"، عليهم أن يدخلوا إلى تلك الرؤوس، أو يستبدلوا رؤوسهم بها.

عندما يجيء "المشروع"، وبعد مدة طويلة من "العمل عليه"، بمحصول قحل، فهذا لأن مساره إكتئابي معطوف على مزاج عدمي. وفي أغلب الأوقات، لا يبدو هذا "المشروع" إكتئابياً فقط، بل يبدي اكتئابه بطريقة جلية أيضاً، بحيث قد يكون عبارة عن عمل بسيط للغاية، كجمع صور ومشاهد خلف بعضها البعض تحت اسم "فيلم"، أو صهر مقطوعتين موسيقيتين، أو تصوير موضوع ما، وتعديله إلكترونياً، أو تدبيج نص مألوف، أو حتى نقل لغرض من المنزل مباشرةً إلى قاعة العرض إلخ.

طبعاً، ثمة عدد من الخطابات جاهزة لتحصين هذه المحاصيل، لا سيما بعد رشقها كيفما كان، ومن دون أي دراية بها وبزمنها، بل مع توظيفها كجهاز تبريري ودفاعي ونكراني. وفي الكثير من الأحيان، يكون هذا التوظيف هو بذاته في حاجة إلى شد وعقد، لكن، لا وجود لطاقة مبذولة في سبيله، وفي سبيل صناعة خدع جيدة على الأقل، وليس الإكتفاء بـ"الحربقة" المكشوفة.

هناك ملاحظة ينتبه إليها بعض متلقي محاصيل "المشاريع" الإكتئابية، وهي كون إنتاجها ليس مسبوقاً بما يمتنه ويقويه، أي أنه يحتاج إلى فعل ما قبله، لا يتعلق به فقط، بل بممارسه  أيضاً. وهذا الفعل هو مشروعهم المفيد ربما، أي الإنتهاء من إكتئابهم، ومن احتباسهم في طرق عيش وتفكير وكلام، طرق لا تؤدي سوى إلى "دوار نظري"، لا ينقل إلى حالة العمل، لكن، إلى المزيد من إنتاج سلع العدمية، التي لا يستر التصفيق لها، وابتياعها بأسعار مرتفعة، والتباهي بها، ومديحها، آثار وجودها.
©جميع الحقوق محفوظة لموقع المدن 2024