موت رفيق الجنرال.. موت الأديب الأنيس

روجيه عوطة

الأربعاء 2017/12/06
غالباً ما يحمل الاهتمام بالأدب الفرنسي إلى الوقوع على ذلك الكتاب الضخم عن تاريخه، وهو من تأليف الثلاثي كاستيه وسوريه وبيكه، الذين قرأوا النصوص من القرون الوسطى حتى الحداثة، محقبين، ومصنفين إياها حسب أطوارها وتياراتها. فهذا الكتاب بمثابة التاريخ الرسمي للأدب الفرنسي، الذي يجمع أبرز كتابه، وأبرز أعماله، متنقلاً بينها على أساس معايير تقطيعية وجافة. ولكن، فجأةً، وفي أثناء الاهتمام بالأدب إياه، يظهر كتاب من جزأين عن تاريخه، وهو ليس مؤلفاً على طريقة الثلاثي المتخصص، بل العكس تماماً، أي أنه مؤلف على طريقة القارئ، القارئ العاشق، الذي اختار نصوصه، ذكرها، وعلق عليها، بالإضافة إلى كونه روى أخباراً عن كتّابها، بعضها شبه كواليسية، وبعضها مليحة النكتة، على ما تصف العربية. وهكذا، يتجاور التاريخ الرسمي للأدب الفرنسي بتاريخ غيره، يتسم باليسر والخفة، بحيث أن مدبجه هو جان دورميسون.

يتبدد التباغت بهذا التاريخ الأليف على نحوين بفعل الذاكرة. فدورميسون هو صاحب رواية "عظمة الإمبراطورية"، التي كتبها متأثراً بشاتوبريان، والتي حظيت بصيتها الذائع في بداية السبعينات، لا سيما أنها نُشرت في ظل شيوع "الرواية الجديدة". هذا من ناحية التذكر الأدبي، أما من ناحية التذكر المرتبط بالفرانكوفونية، فدورميسون ليس بعيداً من مدونتها المحلية. ذلك، أن ألكسندر نجار، وعندما كان يسرد قصة بيروته، استحضره مع مجموعة الكتّاب الذين أتوا إلى لبنان لزيارة الجنرال ميشال عون في العام 1989، يوم كان يخوض "حرب التحرير" ضد الجيش البعثي. جاء دورميسون مع دانيال روندو، ذني تيلليناك، كلود مورياك، فريديريك دونيو إلى بعبدا، دعموا عون، الذي، وبعد مدة قصيرة، لحق بهم إلى فرنسا. لاحقاً، سيكتب دورميسون عن هذه الزيارة، وعن صلته بالجنسية اللبنانية، التي حصل عليها من قبل عون، معلناً افتخاره بها، وافتخاره بموقفه آنذاك، والذي يندرج ضمن مواقفه الأخرى، التي يسجلها كصحافي وكأديب، أو كمجرد صديق للسياسيين في العالم، أو في فرنسا، وعلى رأسهم فرنسوا ميتران.

لطالما وُصف دورميسون بأنه "كاتب يميني"، على إثر مواقفه المؤيدة لديستان، أو لساركوزي، أو للسياسة الإسرائيلية في الشرق الأوسط. لم يكن هذا الوصف يزعج دورميسون، بل يسليه، بحسب ما ردد في مقابلاته، خصوصاً أنه، وهذا ما لا يخفيه، يحب الإتيان على تسميته في جوار كتاب اليمين واليسار الكبار، من أمثال ميشال ديون أو لويس آراغون. فقد كان دورميسون يطمح إلى أن يكون "هوغو" جديد، أو "بروست" عصره، ولأن، هذا الأمر لم يكن متاحاً نتيجة تبدلات الأزمنة، تحول شيئاً فشيئاً إلى إسم شهير في دنيا الأدب ومتفرقاته، حيث يقدم نفسه كروائي-مؤرخ، أو العكس، وككاتب-فيلسوف، أو العكس، وكصحافي، اشتغل لفترة في لافيغارو، ثم كعضو في الأكاديميا الفرنسية. ومن موضع أدبي إلى آخر، ينشر كتبه التي نيفت على الخمسين، ويمثل في فيلم "في مديح الحب" لغودار، وتستقبله البرامج التلفزيونية، من قبيل "أبوستروف"، التي كان يطل فيها ساخراً، ومتحدثاً عن رفاق دروبه المتشعبة، من جان بول سارتر، الذي قال مرةً: "بغضته، كرهته دائماً لهذا اليساري الذي يردد أن الآخرين هم الجحيم، وأن ديغول هو الدكتاتور الفعلي، وليس ستالين"، إلى آلان روب-غرييه، الذي التقى به في إحدى الليالي، وصرح له بأن "الرواية الجديدة"، التي يتحدث الجميع عنها، هي مجرد "دعابة".


كان دورميسون كونت أدبي، وهذا، لا ينفصل عن كونه يتحدر من عائلة من عائلات النبلاء. الكونت، الذي بدأ كتابته لكي يجذب إحدى الفتيات، ومن بعد ذلك، لم يعد يتوقف عن الكتابة، التي وجد أن ممارستها صعبة للغاية، إلا أن الإقلاع عنها مستحيل. تناول في كتبه، وعدا عن التاريخ، الذي كان هاجسه المحوري، كل من الله، الذي تمنى وجوده لكي لا يكون العيش مهزلة، والحب، الذي رفع من قيمة حزنه، والذي اعتقد بأنه، في المستقبل، لن يكون سوى من عمل المجانين، وعن المال، الذي حسبه "ضده الثقافة"، وربما، لهذا، وعلى سبيل المزاح، تهرب وزوجته من دفع الضرائب بين جينيف وباريس! كما كتب دورميسون عن الموت: "كل موت هو لغز لأن كل حياة هي لغز". رحل دورميسون، لم يترك لغزا بقدر ما ترك مسيرة رشيقة، عمد خلالها إلى مؤانسة قرائه والترويح عنهم، وبين الفعلين، يضحك على أي شيء.

مختصر بيبلوغرافي
ولد دورميسون في باريس العام 1925. في العام 1956، نشر روايته الأولى "الحب لذة"، التي لم تروج كثيراً. في العام 1971، نشر "عظمة الإمبراطورية"، وقد لاقت قراءتها شيوعاً، مثلما حصلت على جائزة الرواية من الأكاديميا الفرنسية. في العام 1973، دخل الأكاديميا إياها، والعام 1974، بدأ بالعمل كمدير لصحيفة "لافيغارو". في العام 1981، ينشر "الله، حياته، عمله". في العام 1990، "حكاية اليهودي الفار"، وفي العام 1995، "لا شيء تقريباً عن كل شيء تقريباً"، وفي العام 2003، "كان كل شيء على ما يرام"، وفي العام 2009، "الولد الذي ينتظر القطار"، وفي العام 2016، "دليل التائهين". ليل 5 كانون الأول 2017، مات دورميسون بسكتة قلبية.
©جميع الحقوق محفوظة لموقع المدن 2024