"المهاجر الجيد": هل يتكلم التابع؟

شادي لويس

الجمعة 2016/12/16
كتاب "المهاجر الجيد"، لمحرِّره البريطاني من أصول هندية-إفريقية، نيكش شوكلا، فشل في الحصول على موافقة أي من دور النشر البريطانية لطباعته، فاضطر لجمع التبرعات عبر الإنترنت لتأمين نفقات نشره وتوزيعه. لكن الكتاب اختير، مطلع الشهر الماضي، "كتاب العام"، بعد حصوله على جائزة "اختيار القرّاء" Readers Choice البريطانية، والتي صوّت فيها أكثر من 50 ألف قارئ. والكتاب الذي يحتوى على 21 مساهمة من كتّاب وشعراء وفنانين بريطانيين من الجيل الثاني والثالث من المهاجرين، ويتناول موضوعات العنصرية والاثنية وتجربة الهجرة واللجوء في المملكة المتحدة، لا ينفصل مضمونه عن تجربه نشره الكاشفة عن الصعوبة التي يواجهها الكتّاب من أصول اثنية في الولوج للساحة الثقافية، والتعبير عن أصوات متجاهلة وغير مسموعة عمداً.

يحاول "المهاجر الجيد" تقديم إجابة على أسئلة الهوية: ماذا يعني أن تكون "آخر"، أو أن تكون "مختلط الأثنية"؟ وأي مكان للمهاجرين أو الجيل الثاني والثالث منهم إذا لم يكن مرغوباً فيهم هنا؟ ماذا يعني أن تكون "أسود" أو مسلماً في وقت تقاس فيه درجة التوجس بك، بحسب طول لحيتك ودرجة لون بشرتك؟ تشتبك مقالات الكتّاب مع مفاهيم الثقافة الوطنية البريطانية والتي ما زالت أسيرة حِسّ نوستالجي ما بعد إمبريالي، ومع تجربة العولمة وقيمها البيضاء التي تضغط على الآخر للإختيار بين خانات إثنية أحادية البعد، ومحددة سلفاً، كمدخل وحيد ليكون الآخر مرئياً ومعترفاً به.

وفيما يسعى بعض الكتاب لتقديم تحليل ثقافي معمق على خطوط الرمز والصور والحدود اللامرئية، فإن بعضهم يكتفي بسرد تجارب شخصية وعائلية بِحسٍّ ساخر أحياناً كثيرة، لا يخلو مع بساطتها اليومية، من دلالات حادة ومؤلمة. فعلى سبيل المثال، تتبع الشاعرة، تشمني سليمان، قبرصية الأصل، هجرة الأسماء وتحولاتها، ومن بينها اسمها واسم عائلتها، عبر الحدود السياسية واللغوية من بلدها الأم إلى المملكة المتحدة. فالكلمات والأصوات والأسماء "التي نضمن فيها الألم والصدمة" في كل مرة ينطق بها، بسكناتها ومدّاتها والتشديد على بعض مخارجها، تفقد دلالتها وذاكرتها عندما تزع من سياقاتها، وتستخدم بغير الطريقة التي كان لها أن تُلفظ بها، عبر تسكينها في الطريقة القياسية للنطق الأنكلوساكسوني. فكما تكتب سليمان: "القياسية هي العمود الفقري للأمبراطورية".  

ويسرد الممثل ومغني الراب الباكستاني الأصل، رضوان(رزوان) أحمد، تجاربه في المطارات على ضفتي الأطلنطي، بعد مشاركته في فيلم "الطريق إلى غوانتانامو". فبين الاحتجاز والعنف البدني الذي تعرض له من الأمن البريطاني في مطار لوتين في لندن، ومحاولته تبرير وجوده في العراق وأفغانستان لموظفي الجوازات الأميركيين، فإن صورته في "أفيش" الفيلم الذي يظهر فيه مرتدياً بدلة غوانتانامو البرتقالية، بدلاً من أن تكون تفسيراً لرحلاته السابقة وتأكيداً لموقعه كـ "مهاجر جيد"، كانت سبباً أدعى لتشكيك موظف الجوازات الأميركي الذي بدا مشوشاً ومرتبكاً وفشل في استبيان الفرق بين السينمائي والواقعي. فيما دفع فهم الفرق هذا، ضابط المخابرات البريطاني للصراخ فيه: "وهل أصبحتَ ممثلاً للانتصار للنضال الإسلامي؟".

لا يكتفي أحمد بالتأكيد على أن تحققه الفني لم يكن كفيلاً بإعفائه من التأطير داخل صورة المُسلم الخطِر، وأن الفرق بين الفني والخيالي في مقابل الواقعي يصبح عصياً على الفصل في حالة أمثاله، بل تمتد سرديته لكشف العلاقات الداخلية بين الآخر والآخر. فموظف الأمن البريطاني الملتحي، والذي يفتشه بشكل دقيق كل مرة يدخل فيها المطار، والذي يجد أحمد نفسه بشكل لاواعٍ، يناديه بالأوردو "يا عمي"، ويرد عليه هو بـ"يا ابني" بالأوردو أيضاً، يهمس له في إحدى المرات: "إنهم يفتشونني أنا أيضاً"، كاشفاً عن تقسيم للأدوار بين الآخرين، يقوم بموجبها بعضهم بمراقبة البعض الآخر، فيما يخضع المراقبون للمراقبة أيضاً، في سلسلة شبكية من التوجس المتدرج والإخضاع.

لكن السؤال الأكثر إشكالية الذي يواجه الكتاب، هو إلى أي حد نجح فعلاً في تحرير صوت المهاجر وصياغة صورة للآخر عن نفسه وبنفسه. يعيدنا ذلك السؤال إلى أطروحة المُنظّرة الأميركية البنغالية الأصل، شاكرافورتي سبيفاك: هل يستطيع التابع أن يتكلم؟ تبدو الإجابة على ذلك السؤال شائكة، كمواضيع "المهاجر الجيد". فمقالات الكتاب التي ساهم فيها كتّاب من أصول لغوية وإثنية متنوعة، صيغت جميعها بالإنكليزية، لأسباب مفهومة بالطبع، لكنها تورطت هي الأخرى في قيد "القياسية اللغوية"، التي تتحدث عنها تشمني سليمان في مقالتها ضمن الكتاب نفسه، وسقطت تحت وطأة هيمنة اللغة الامبراطورية. فإن فقدت اللغة معناها خارج سياقها، فكيف للآخر أن يعبّر عن نفسه بشكل أصيل، من داخل لغة الهيمنة نفسها؟

يبدو رضوان أحمد أيضاً، في عمله السينمائي والموسيقي، متحركاً داخل منظومة قيم وجماليات الفن الغربي، ووسائله التقنية وأهدافه، ساعياً إلى نيل استحقاق، وتأكيد الاعتراف بموقعه داخل المنظومة الثقافية المعولمة، لا تغييرها أو تحديها. تناقش مقالات الكتاب قيماً وصيغا ذات دلالات غربية بحتة، كالهوية والأثنية، ومن منطلقات غربية أيضاً، من دون طرح بدائل ذات خصوصية إثنية أو ثقافية لأصحابها. لكن، وإن كانت سبيفاك قد جزمت بأنه لا يمكن للتابع أن يتكلم، فإن "المهاجر الجيد"، وإن كان كُتّابه بالفعل من أفراد الأقليات المتحققة في الساحة الثقافية بشكل أو بآخر، والذين يبدو توصيف "المهاجر الجيد" مناسباً لهم، قد نجح إلى حد ما في إنتاج صوت، ولو خافت ومشوش، "للتابع"، من داخل منظومة الهيمنة ذاتها، وبأدواتها. لكن المهاجر غير الجيد بما يكفي.. يبقى بلا صوت.   
©جميع الحقوق محفوظة لموقع المدن 2024