أسطورة صلاح الدين: هكذا عمّت الغرب وعادت إلى الشرق

محمود الزيباوي

الجمعة 2017/05/19
بخفة تثير العجب، قال الروائي المصري يوسف زيدان في لقاء تلفزيوني إن "صلاح الدين الأيوبي واحد من أحقر الشخصيات في التاريخ الإنساني"، وزعم أن القائد الشهير "ارتكب جرائم حرب بحق الفاطميين"، وأحرق مكتبتهم الكبيرة بحجة "معتادة حتى الآن، وهي مواجهة الفكر الشيعي". واصل الكاتب هذا الهجوم الحاد عبر حسابه في "فايسبوك"، وقال إن صلاح الدين عقد "صلح الرملة" مع الصليبيين ليضمن لنفسه السلطة، و"تواطأ وتآمر" معهم ضد الخليفة العباسي، كما أنه خان سيده السلطان نور الدين، واستولى على حكم دمشق بعد وفاته، وقتل "كل من وقف بينه وبين العرش".

أثارت هذه التصريحات الغوغائية ضجة في وسائل الإعلام العربية ومواقع التواصل الاجتماعي، وأشعلت سجالاً حاداً ما زال مفتوحاً. رأى الشيخ خالد الجندي أن هجوم يوسف زيدان، على صلاح الدين الأيوبي، هدفه نشر المذهب الشيعي في مصر، وقال الداعية السلفى زين العابدين كامل: "حصل يوسف زيدان على درجتى الماجستير والدكتوراه فى الفلسفة، فلم يدرس شيئاً من كتاب الله ولا من سنّة رسوله ولا من علوم الشريعة ولا التاريخ الإسلامي، لذا كثرت سقطاته بل وخرافاته"، وأضاف مكرّرا المنظومة الشائعة: "يعتبر صلاح الدين الأيوبى من العظماء الذين جاد بهم التاريخ والزمان على هذه الأمّة. استطاع توحيد بلاد المسلمين بعدما كانت متناحرة، فلقد قام بتوحيد مصر، واليمن، وسوريا، الحجاز، وتهامة، ودعم المعارف والعلوم والفنون المختلفة واهتم بها واعتبرها جزءاً أصيلاً من نهضة الأمة الإسلامية، ونهض ببلاد الشام، واستطاع القضاء على الشيعة فى مصر وإعادة مذهب أهل السنّة والجماعة، وخاض معركة حطين وانتصر فيها على الصليبيين".

في الواقع، لم يحمل هذا السجال أي عنصر جديد، غير أنه أعاد إلى الواجهة سجالاً قديماً اندلع منذ زمن بعيد، وأعاد طرح السؤال: من هو صلاح الدين الأيوبي؟ وكيف ولدت أسطورته في الأزمنة الحديثة؟ هو في الذاكرة العربية "الناصر صلاح الدين"، البطل القومي الذي جسده أحمد مظهر في فيلم يوسف شاهين الشهير العام 1963، في زمن سطوع نجم جمال عبد الناصر. وهو القائد الذي يحظى في تركيا بأعلى مقامات التقدير والإجلال. وهو كذلك بطل الأكراد القومي وأيقونتهم الثابتة. تلك هي صورة صلاح الدين الأيوبي في زمننا، وهي صورة تبسيطية لا تتطابق بشكل كلي مع الصورة التاريخية التي يجدها الباحث في النصوص العديدة من زمن السلطان الناصر. مثّل قضاء صلاح الدين على الفاطميين انتصاراً لحق الخلافة العباسية على سلطة خلافة "الرافضة" من الشيعة الإسماعيلية، ومثّلت انتصاراته على الفرنجة انتصاراً ثانياً "لدين الحق"، وبات، كما وصفه ابن شداد، "الملك الناصر، جامع كلمة الإيمان، وقامع عبدة الصلبان، رافع علم العدل والإحسان، صلاح الدنيا والدين، سلطان الإسلام والمسلمين، منقذ بيت المقدس من أيدي المشركين، خادم الحرمين الشريفين".

فكيف تمكن صلاح الدين من تحقيق هذه الإنتصارات، وكيف ولدت أسطورته؟

في منتصف القرن التاسع، ضعفت سلطة الخلفاء المركزية في بغداد، وبدأت بالتلاشي، فظهرت في أنحاء مختلفة من البلاد دول وإمارات وممالك تدين لبني العباس بالولاء من ناحية المبدأ. نشأت الخلافة الفاطمية في مطلع القرن العاشر، وأقامت عاصمتها في المهدية، في تونس، ثم تمددت إلى مصر، وأسست مدينة القاهرة، وجعلت منها عاصمة لها، وتابعت توسعها، وسيطرت على الشام. في هذه الحقبة، لمع نجم السلاجقة الذين بسطوا سيطرتهم على بلاد فارس، وأقاموا فيها سلطتهم، وهم في الأصل من زعماء قبائل الغزّ التركية. كانت الخلافة العباسية في بغداد على مذهب السنّة، وكانت الخلافة الفاطمية في القاهرة على مذهب الشيعة الإسماعيلية، وكان السلاجقة متمسكين بمذهب السنّة، وقد اعترفت الخلافة العباسية بحكمهم في أصفهان، وأولتهم كامل السلطة الزمنية على دولة الإسلام. في نهاية القرن الحادي عشر، تمدّد الحكم السلجوقي إلى الداخل السوري، وانتزع السلطة من الفاطميين، وجعل من حلب قاعدة لحكمه. بعد هذا الانتصار، تحولت السلطنة السلجوقية إلى دول متصارعة، وانتهت على أيدي الأتابكة الذين شكلوا على أنقاضها دولاً، أشهرها تلك التي أنشأها عماد الدين زنكي في الموصل. بعد وفاة عماد الدين، حكم حلب، ابنه الثاني، نور الدين محمود، ووسع إمارته بشكل تدريجي، وأصبح ملك دمشق وموحد الشام، وسعى إلى ضمّ مصر، فأرسل حملات من دمشق، وقاد هذه الحملات أسد الدين شيركوه، وكان بصحبته ابن أخيه الشاب يوسف بن أيوب الشهير بصلاح الدين. في عهد الزنكيين، أطاح صلاح الدين آخر الخلفاء الفاطميين، وتملّك مكانه باسم صاحبه نور الدين، واحتل دمشق، ثم استولى على حلب، وسار إلى دمشق، واقترن بأرملة نور الدين، ثم بسط سلطته شمالاً وصولاً إلى الموصل، وجنوباً وصولاً إلى الحجاز.

في زمن السلاجقة، عمد الملوك الفرنجة إلى تنظيم حملة عسكرية لـ"تحرير" الأراضي المقدسة، وسيطروا بسهولة على إنطاكية والرها، ثم دخلوا ساحل بلاد الشام، وأنشأوا تباعاً كونتية الرها وإمارة الرها ومملكة أورشليم وكونتية طرابلس. في المقابل، أسس صلاح الدين يوسف بن أيوب، السلطنة الأيوبية، وجعل من القاهرة عاصمة لها، وتعاظم شأنه عندما خاض المعارك المتتالية ضد الفرنجة في بلاد الشام. انتهت هذه المعارك بسقوط أغلب حصون ومدن "مملكة أورشليم" بعد هزيمة الفرنجة في حطين العام 1187. تراجع السلطان عن مهاجمة صور التي شكلت معقلاً للفرنجة، واضطر إلى التوقيع على "معاهدة الرملة" "وهو كاره يأكل يديه من الحنق والغيظ"، كما نقل المؤرخون الذين عاصروه. وبعد وفاته، تواصلت المعارك، وعقد الفريقان سلسلة من المعاهدات تنازل فيها الأيوبيون طوعاً عن كل ما كسبه مؤسس دولتهم. انقسمت السلطنة الأيوبية، ودخل الملوك في صراع متجدّد، وسيطر الفرنجة على بيت المقدس من جديد، إلى أن هُزموا في غزة العام 1187 في موقعة أُطلق عليها اسم "حطين الثانية". بعد بضعة عقود، زحف المغول، ودخلوا بغداد، وأسقطوا خلافة بني عباس، وأظهر آخر ملوك بني أيوب تخاذلاً مشيناً أمام الغزاة الجدد، وبينهم من أرسل إلى هولاكو تُحفاً وهدايا. واصل المغول تقدمهم، وزحفوا نحو فلسطين، لكن المماليك تمكنوا من صدهم في معركة عين جالوت، وألحقوا بهم هزيمة كبيرة، ثمّ تابعوا تقدّمهم، وقضوا على آخر معاقل الفرنجة. إثر هذه الانتصارات، سطع نجم رابع سلاطين الدولة المملوكية، الظاهر بيبرس، وتحوّل إلى بطل الإسلام الأول على مدى قرون من الزمن، وحجب اسم صلاح الدين الأيوبي.

في أوروبا، شكّلت انتصارات صلاح الدين بداية لنهاية الدول الصليبية الساحلية، ونسج أهل التاريخ والأخبار من الفرنجة، روايات عجيبة حوّلت الناصر الأيوبي إلى "أسطورة سوداء". تبدّلت هذه الصورة تدريجياً، وبرزت مناقب صلاح الدين الأخلاقية التي نزعت إعجاب أعداءه الذين عاصروه وعرفوه، فتحول الخصم الأكبر، إلى أيقونة تختصر الفروسية والشرف والكرم والعدل. كَبر شأن هذه الأيقونة في عصر الأنوار، حين بدأت أوروبا مرحلة "النقد الذاتي"، وفقدت السلطة الكنسية الكثير من سلطتها الفكرية. نسج أبرز كتّاب أوروبا حول صلاح الدين قصصاً مثالية تجعل منه "وسيطا" يقف بين موسى ويسوع ومحمد. في المقابل، عاد صلاح الدين إلى الواجهة في العالم الإسلامي في زمن سلطنة عبد الحميد، وتحول إلى بطل يجسّد تطلعات الأمة، وحجبت هذه الصورة المثالية "الحديثة" الكثير من معالم الصورة "التاريخية" الصحيحة.

أسقط كبار المؤرخين المعاصرين، الكثير من المنظومات الشائعة التي صنعت شهرة صلاح الدين، لكن الأسطورة بقيت حية. بعد مراجعة نقدية متأنية للشهادات التاريخية التي تعود إلى زمن الناصر الأيوبي، تبيّن أن "مناقب" السلطان أكبر من "نواقصه"، واتّضح أن هذه المناقب كانت أساس شهرته التي عمّت الغرب قبل أن تعود إلى الشرق من باب مغاير تماماً. أُعجبت أوروبا بصلاح الدين لأسباب عديدة يصعب اختزالها، واستعاد العالم الإسلامي صورته المثالية في صيغة مثالية "محوّرة" تبدّلت بين مصر وسوريا والعراق بحسب الأحداث والظروف. غير أن هذا "التقديس" لم يبلغ العالم الشيعي الذي لم يُعجب يوماً بقاهر الخلافة الفاطمية الذي أتلف مكتبة القاهرة.

في أوروبا، ظلّ صلاح الدين ذاك المقاتل الذي انتصر بكرمه وتسامحه، وعلّم المسيحيين "حقيقة خطيرة"، وهي "أنّ محمدياً بوسعه أن يولد فارساً بطهر القلب وعزّة النفس"، كما كتب جول ميشليه في"تاريخ فرنسا". في العالم الإسلامي السنّي، استعاد السلطان الأيوبي نجوميته، وبات "صلاح الدنيا والدين" و"فاتح بيت المقدس"، كما كان في الحقبة التي سبقت ظهور بطل المماليك الظاهر بيبرس.  

تخرج القراءات الشيعية عن هذا السياق، وأشهرها قراءة الشيخ محمد جواد مغنية في كتابه "الشيعة والحاكمون"، وقراءة حسن الأمين في كتابه "صلاح الدين الأيوبي بين العباسيين والفاطميين والصليبيين"، لكننا لا نجد في هذه الآراء ما يماثل قول يوسف زيدان بأن صلاح الدين الأيوبي كان "من أحقر الشخصيات في التاريخ الإنساني". 
 
©جميع الحقوق محفوظة لموقع المدن 2024