يا عُشّاق الحياة..

هشام أصلان

الثلاثاء 2017/10/10
1
في تلك الليلة من العام 1989، قال أبي إن المباراة مع المنتخب الجزائري شديدة الأهمية، ليس لأن حسمها لصالحنا يؤهلنا فقط إلى كأس العالم، لكن لأننا لم نتأهل منذ العام 1934، أي منذ ما قبل مولده، وهو الذي كان قد تجاوز الخمسين من العمر.

كنا الأسرة الوحيدة في البيت التي اشترت تلفزيونًا بالألوان قبل سنوات قليلة، والشقة مفتوحة لفرجة الجيران في ظرف كهذا. المباريات تُبث في القنوات الأرضية، إذ لم تكن "أطباق الدش" قد ظهرت بعد على أسطح الحي الشعبي.

الانفعال الشديد ليس خطرًا على الصحة. مشاكل القلب لم تكن قد ظهرت على أبي بعد. العم عيد كان لا يزال محتفظًا بساقيه، والعروس الجديدة بنضارتها تجلس كفاكهة بين الجارات، بينما تزوغ عينا زوجها، العامل في شركة الكهرباء، حرجًا، كلما صرخت باسم لاعب أو ترجرج جسدها، كأنما عليها تمثيل خجل الخروج من العذرية حديثًا.

بعد شهور، وبانطلاق مونديال 1990، فرحوا جميعًا بإنجاز التعادل مع منتخب هولندا، ثم شتموا محمود الجوهري بعد الخسارة أمام إنكلترا. كنت صغيرًا لا أفهم لماذا يسبّونه، وهو الذي صعد بالفريق بعد عشرات السنين من الحرمان. سأفهم في ما بعد أنها مسألة حرج من الاستماتة في الدفاع وحده، لدرجة اعتبرها البعض بعيدة من شرف النزال.

2
في ساحة الفرجة الخضراء، بدت العائلات مصدومة أمام الشاشة الكبيرة. المباراة مع منتخب الكونغو أصعب بكثير مما توقعنا. مَن لا يفهم كثيرًا في كرة القدم، مثلي، ذهب إلى ساحات الفُرجة مطمئناً إلى ما سمعه من أصدقاء خُبراء. كنت قد تأكدت من صديقي الروائي حسن عبد الموجود، أن الأمر محسوم: "هنلاعب أضعف فرقة في المجموعة، وعلى أرضنا، إحنا تقريباً صعدنا". سألتُ أخي، فقال كلامًا مشابهًا: "لو مكسبناش على أرضنا ووسط جمهورنا، ببساطة شديدة، نبقى بنهزر". سألته بجدية: "إيه الجديد؟ ما إحنا علطول بنهزر"! مثلهما كان الشاعر إبراهيم داود في حالة تفاؤل عجيبة، دفعته إلى الكتابة، نهارًا وباطمئنان، أن "الليلة عيد"، لنُفاجأ ليلًا بأن الأمر ليس بهذه البساطة. في ساحة الفُرجة، رأيتُ أشخاصًا ينهارون قبل أن ترسل السماء ضربة جزاء، ونحن على حافة النهاية. الله يعرف مدى حاجتنا إلى فرحة. وأنا، مثل الجميع، أحببت محمد صلاح، لكني، في نفسي، لم احب انسحاب الكاميرا لصالحه عن عصام الحضري، وهو الذي يعبّر، في رؤيتي، عن المكافحين والمُصرّين على الحُب وكسب الدهشة، كأولئك الذين أجبروا أعداءهم على الانحناء احترامًا في ساحات الحروب. لم تفارق الكاميرا عروق جبهته، لسنوات، وكان يحتاج منها دقائق أخرى.

3
يقول محمود درويش: "هي فسحة تنفس تتيح للوطن المتفتت أن يلتئم حول مشترك ما".
لا أحب الكلام النموذجي عن الالتفاف حول العلَم. لكن الجميع يحتاج أن يُخرج رأسه من تحت المياه، ويأخذ نفسًا واحدًا، غير مبال بتوجهات سياسية أو فذلكة ثقافية. في ساحة الفرجة، لا فرق بين مؤيد للسلطة أو معارض لها، إلا بالتقوى. اللعبة الكونية لا تنفصل عن مسائل السياسة. لكن، مَن قال إن لدينا سياسة؟ فقط لدينا كومبارس يؤدون أدوار الإعلاميين. هؤلاء اجتهد بعضهم، ليس في تسييس الفوز، لكن في تطوع فجّ لنسبته إلى بَركة الرئيس الجديد، وسبّ دوائر يمثلها شباب في سجون الرأي. تحججوا بأن هناك من يستخسر أن يكون صعودنا في عصر السيسي، ويعرفون ونعرف أن شباب الثورة ليسوا من هؤلاء. الشوارع التي تعاني مرحلة زمنية غير مسبوقة في صعوبتها، التقطت رائحة البهجة من بُعد، وتمسكت بالفرح ولو لساعات، غير معنية إلا بلحظة تفوّق تأخرت 27 سنة! تلك الشوارع لم يشغل تأملها في ما أرسلته السماء إلى الملعب، إلا انشغالها بصورة شاب مبتور الساق استند إلى عكازين، رافعًا ساقه الباقية في الهواء، ومنتصرًا بفرحته على الحدود المعروفة للقدرة البشرية.

4
أمس الأول، افتقدت أبي والأقارب والجيران القدامى. أعرف أنهم كانوا سيرقصون في صالة البيت. رحلوا قبل أن تتحقق أمنياتهم، وقبل أن يتوحش الحزن ويصير قادرًا على اغتيال كل من يعبر به في بلادنا البسيطة. كانوا أسعد منّا ربما، لكن البشر فُطروا على البحث عن لحظات البهجة، ولو لم تخرج عن حدود المستطيل الأخضر.
©جميع الحقوق محفوظة لموقع المدن 2024