بيروت ترايسي شهوان الدموية: اعتياد الخطر وعودته كحلم قاتل

روجيه عوطة

الخميس 2017/05/18
طوال كتابها "بيروت الدموي" (كوميك-صادر عن جامعة الألبا)، تحافظ ترايسي شهوان على وتيرة سردية وتصويرية واحدة، بحيث تذهب من موقفٍ عادي ومألوف إلى آخر مخالف وطارئ، وعلى هذا المنوال، تدخل إلى مدينة بيروت بصحبة بطلتي قصتها، أي رامونا وليو، العائدتان إلى بلدهما للتو، بدون أن يكونا على صلة إجتماعية ما، بل إن المشترك بينهما قد تشكل على باب المطار، وهو سيارة الأجرة.


وداخل هذه الأخيرة، التي تُعَدّ مركبةَ، الصعود فيها يعني اكتشاف بيروت من وراء "شاشة" الزجاج، داخلها، تنطلق الفتاتان في تلقي وقائع العيش المديني، وفي التفاعل معها، مرةً، بالريبة، ومرةً، بالجرأة، ومرةً، بالإبعاد، ومرةً، بالتطبع. فسلوك البطلتين لا يستقر على وجهة بعينها، بل يبقى متأرجحاً بين تصرف ونقيضه.

تضع شهوان القراء - المتفرجين، أمام مَشاهد متتابعة، غالباً ما تدور حول خطر ما يحدق في رامونا وليو، قبل أن يقع، فلا يطاولهما بأذية أو ضرر، لكنه، يترك أثره في مسارهما. فبعدما كانت كل منهما ذاهبة إلى جونيه، دخلت، وبمعية التاكسي، إلى الضاحية الجنوبية، وبعدما كانت في الضاحية، حطت، وبمعية الصديق كريم، في الأشرفية، وبعدما حطت في الأشرفية، بلغت آخِر بيروت، أي ليلها المملوء بالكحول والسهر، ومعهما، الضوضاء والترنح. فهناك رحلة مدينية، ساقت البطلتين من المطار إلى الليل، لكنها، لم تسُقهما عن قصد، ولا حتى عن محض إكراه، بل إنهما تعرضا لها على أساس أنها "قدر لبناني"، يحملهما إلى المجازفة والسلوى، على حد سواء.

لم يحدث الخطر في قصة رامونا وليو دفعة واحدة، بل حلّ متدرجاً، وفي كل لحظة من لحظاته، استطاعت البطلتان "القفز" عنه، وهذا، إلى أن غدا، وبفعل رسوخه، بمثابة ألعوبة. مفارقة قصة شهوان، أنها، وبطريقة ملفتة، بينت الخطر أمام البطلتين، ثم، جعلته دارجاً في عيونهما، وعندما أضحى على هذه الحال، وبالتالي، اعتادا عليه، وتآلفا، وانسجما معه، ظهر، ومن جديد، قاسياً، وعنيفاً، وفي نتيجته، صار الإحتفال الليلي مجرد ساحة جريمة. وهكذا، تقول شهوان، عبر قصتها، أن بيروت تصبح "دموية" بسبب محدد، أي بسبب إعتيادها على الخطر، وتلقفه كعنصر من عناصر العيش اليومي، فبتلاؤمها معه، تظن أنه تبدد، أنه توقف عن الوجود، لكنه، وفجأةً، يصيبها، ينزل بها، يرديها جثةً، ومن دون أن تدرك علّة موتها: التعود على الخطر، لا يزيله، بل أنه السبيل إلى عودته بطريقة مباغتة وشرسة.

وفي هذا السياق، من الممكن الحسبان أن ذلك الخطر لم يعد حدوثياً خالصاً، بل رجع من جهة النوم. فحين كانت ليو نائمة خلال السهرة الكحولية الراقصة بالقرب من حوض السباحة، تقع الجريمة، إذ تفتح فتاتان النار من الأسلحة الرشاشة على الساهرين.

وهنا، قد يصح الإفتراض أن تلك الجريمة هي حلم ليو، التي، ومنذ وصولها إلى بيروت، تعرضت للكثير من مواقف الخطر، تحملته، وكبحته، ولما نامت، فلت منها ضد المحيطين بها. فكل هذا الخطر الذي يجري تلقفه على طول النهار، ويجري أخذه على محامل التعود والتكيف والمعاشرة، يرجع ويظهر، وعبر الحلم، مضغوطاً ومكثفاً  في الليل، بالإضافة إلى كونه مطلقاً، كالرصاص، ضد المتوافقين معه.

وقد يصح الإفتراض أيضاً، أن الترادف بين القاتلتين والبطلتين هو إشارة إلى أن المتوافقين مع الخطر، متواطئون معه. فبما أن الجريمة هي حلم ليو، هو مكبوتها، فالقاتلتان ليستا سوى النائمة ورفيقة دربها البيروتي، بحيث يقولان للساهرين، لسكان المدينة، للمعتادين على الخطر: "أنتم لستم متكيفين سوى مع موتكم، وكل هذا الموت، الذي تعرضنا له في مدينتكم، ها نحن نرده لكم".

تستيفظ ليو، ولا تعلم أن الجريمة وقعت، بل تعتقد بأن الساهرين نائمون، فتصعد في تاكسي من دون رفيقتها، وتذهب في رحلة أخرى. فـ"بيروت الدموية" لا تتوقف، وعلى الرغم من عودات الخطر فيها كجريمة، عن إراقة ذاتها، وعن سفكها.

©جميع الحقوق محفوظة لموقع المدن 2024