وقل لو كان البحر مداداً

محمود الزيباوي

الجمعة 2017/04/21
 
تشهد بيروت العديد من المعارض الفنية، غير أن المعارض التي تعني بالفنون التراثية تبقى نادرة للغاية، ومنها معرض "مداد" الذي افتتح مؤخرا في "دار نمر للفن الثقافة"، ومحوره "فن الخط العربي في الحياة العامة والخاصة". يضمّ هذا المعرض الاستثنائي مقتنيات مختارة من مجموعة رامي النمر تكشف عن تطوّر الفن الخط وتعدّد تجلياته من القرن الثامن إلى القرن العشرين.


يأتي هذا المعرض الجامع تحت عنوان "مداد"، وقد وردت هذه الكلمة مرة واحدة في القرآن، في الآية 109 من سورة الكهف: "قل لو كان البحر مدادا لكلمات ربي لنفد البحر قبل أن تنفد كلمات ربي ولو جئنا بمثله مددا"، وتفسيرها بحسب ابن كثير: "قل يا محمد لو كان ماء البحر مداداً للقلم الذي يكتب به كلمات اللّه وحكمه وآياته الدالة عليه، لنفد البحر قبل أن يفرغ كتابة ذلك". والمداد هو "الذي يُكتب به"، كما جاء في "لسان العرب"، وفي تعريف ابن الأنباري: "سُمّي المداد مدادا لإمداده الكاتب من قولهم أمددت الجيش بمدد".

نقل أهل الحديث عن الرسول قوله: "إذا كان يوم القيامة يوزن دم الشهداء بمداد العلماء، فيرجح مداد العلماء على دم الشهداء". وتكرّر هذا الحديث مع اختلاف في اللفظ، فقيل: "وُزن حبر العلماء بدم الشهداء، فرجح عليهم"، وقيل: "لو وُزن مداد العلماء، ودم الشهداء، لرجح مداد العلماء على دم الشهداء". والمداد هو الحبر، ونقل المرادي في "عمدة الكتاب" رواية تقول أنّ النحوي أبو محمد التنوزي سأل الفراء: "لم سُمّي المداد حبراً؟"، فأجابه: "يقال للعالم حِبرٌ وحَبرٌ، فإنما أرادوا مداد حبر، فحذفوا مداد وجعلوا مكانه حبراً".  وفي هذا المعنى، كتب البَطَلْيَوسي في "الاقتضاب في شرح أدب الكتاب": "والحبر من المداد مكسور لا غير. فأما العالم فيقال له: حِبر، وحَبر، وقال بعض النحويين: سُمّي المداد حبراً باسم العالم، كأنهم أرادوا مداد حبر، فحذفوا المضاف".


عند دخولنا معرض "مداد"، نجد أيقونة مسيحية من القرن التاسع عشر مصدرها مدينة القدس تمثّل القديس فيليبوس، وتجاور هذه الأيقونة مخطوطة عثمانية مذهبّة تمتدح نبي الإسلام. تشكّل هذه المواجهة مقدّمة للمعرض ومدخلا له. رفعت الكنيسة المسيحية البيزنطية الأيقونة إلى مصاف الإنجيل والصليب، وجعلت منه تعبيرا عن إيمانها، ويختزل انجيل يوحنّا هذا المبدأ في قوله: "الكلمة صار جسداً وحلّ بيننا ورأينا مجده". في المقابل، رفع الإسلام من شأن الخط، وجعل منه الوسيلة الأولى للتعبير عن كتابه الذي أُنزل "قرآنا عربيا"، كما جاء في مطلع سورة يوسف، وهو قرآن "غير ذي عوج" (الزمر 28)، "نزل به الروح الأمين"، "بلسان عربي مبين" (الشعراء 195). كان العرب في الجاهلية بحسب الجاحظ "أميين لا يكتبون"، ولا يعني هذا القول أنهم لم يعرفوا الخط، إذ "ليس في الأرض أمة بها طرق أو لها مسكة، ولا جيل لهم قبض وبسط، إلا ولهم خط". سمّى ابن سعد في "الطبقات" عددًا كبيرًا من الرجال كانوا يكتبون في الجاهلية، وأضاف معلّقا: "وكانت الكتابة في العرب قليلة". كذلك وصف القرآن العرب في جاهليتهم بــ"الأميين"، وتردّد هذا الوصف في آيتين من سورة آل عمران: "وقل للذين أوتوا الكتاب والأميين أأسلمتم" (20)، "قالوا ليس علينا في الأميين" (75)، كما في الآية الثانية من سورة الجمعة: "هو الذي بعث في الأميين رسولا منهم يتلو عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة وإن كانوا من قبل لفي ضلال مبين". مع دخولهم الإسلام، رفع العرب من شأن الخط وعظّموه، ونشروه في سائر العالم، كما تشهد القطع المعروضة في المعرض، وهي خمس وسبعون قطعة متنوّعة مصدرها سائر بقاع الأرض.


في أول نشأتها، اعتمدت الكتابة العربية خطا بسيطة للغاية، وكانت خالية من النقط خلوًّا كاملًا، ويشير القاضي أبو بكر بن العربي إلى هذا الأمر في كتابه "العواصم من القواصم" حيث يقول: "وكان نقل المصحف إلى نسخه على النحو الذي كانوا يكتبونه لرسول الله صلى الله عليه وسلم وكتابة عثمان وزيد وأبي بكر وسواهم من غير نقط ولا ضبط. واعتمدوا هذا النقل ليبقى بعد جمع الناس على ما في المصحف نوع من الرفق في القراءة باختلاف الضبط". استخدم المسلمون الأوائل الخط "المدني" الذي يتميز باعوجاج الألف وميل الشكل، بعدها ظهر الخط "المدوّر"، وتبعه الكوفي الذي اشتُهر في العصر العبّاسي واستُخدم في كتابة المصاحف على مدة قرون. تدريجيا، استحدث الخطاطون أنواعا أخرى من الخط أشهرها الرقعة والنسخ والثلث  والفارسي والإجازة والديواني والطغراء، وتفنّنوا من خلالها في التّشكيل والتّنويع الهندسي من تدوير وسحب وتشابك وتداخل.

في معرض "مداد"، نقع على ثلاثة شواهد تعود إلى العصر العباسي وتمثل مرحلة لاحقة من تراث الخط الكوفي، ويجد المشاهد للوهلة الأولى صعوبة في قراءة هذه الكتابات. القطعة الأولى عبارة عن ورقة مفردة يتّضح عند التمعّن في نصّها أنها تحوي جزءا من سورة النمل. تماثل القطعة الثانية هذه القطعة، وتحوي الآيات الأخيرة من "سورة الملك"، وأول آيات "سورة القلم". أما القطعة الثالثة، فهي كراس من مصحف قديم مصدره مصر أو من بلاد الشام يحمل كتابة بخط يماثل القلم الكوفي. حول هذه القطع، نقع على مخطوطات متنوعة تشهد على تعدّدية جمالية الخط. من المرحلة المملوكية، نجد لفيفة قرآنية تعتمد الخط النسخي. ومن ايران، تقع على صفحة مزوّقة تعود إلى أوائل القرن السابع عشر تعتمد الخط المعروف بـ"النستعليق". الشواهد العثمانية كثيرة، ومنها فرمان تعيين صادر عن السلطنة من عام 1646 يتبنّى الخط  الديواني الذي شاع في هذه الحقبة. ونقع على كتابات من القرن التاسع عشر مصدرها المغرب العربي، وفيها يبرز الخط الكوفي المغربي الّذي ظهر في بلاد المغرب والأندلس، وتميّز بأسلوبه الذي يجمع بين حروف الخطّ الجاف والليّن معاً.

بين الحقبة العباسية والحقب التي تلتها، تحوّل الخط العربي من وسيلة للكتابة والتدوين والتواصل إلى فن قائم بذاته مبني على نظام هندسي له قوانينه وأسسه. هكذا كان حضور الخط العربي حضوراً للغة فنيّة خالصة انتشرت خلال عشرة قرون. من البلاد العربية إلى الأندلس وصولاً إلى الصين، نما الخط وأصبح فناً متكاملاً عُرف بـ"هندسة الروح". يطلّ هذا الفن على الروح من أُفق الهندسة حيث الشكل هو المعنى والمضمون. من النقطة إلى الخط المستقيم إلى الخط المنحني، يؤسّس الخط العربي بحراً من الأشكال تتغيّر وتتفاعل، وتبقى الهندسة العقلانية هي المحرّك الفاعل فيها. المنطق هو السيّد الثابت. لا مشاعر ولا حالات. النظام الهندسي هو روح الحرف الفني. يشهد الشكل تحولاته ويبقى حاضراً خارج الزمان وخارج المكان وخارج العاطفة. يتغيّر القالب وتتغيّر المادة، لكن المبدأ يبقى المنطق. من الرسم إلى النقش والرقش إلى النسيج إلى الخزف، تتغيّر المواد وتتغيّر الأحجام، لكنّ الأساس واحد لا يتغيّر.

تشهد القطع المعروضة في دار نمر لجمالية هذا الفن البديع الذي حافظ على تأّلقه على مدى أكثر من ألف عام. في كل قطعة من هذه القطع، يتجلّى المداد بجماله، هذا المداد الذي تغنى به أصحاب"جواهر الأدب"، وقالوا في وصفه: "مداد كسواد العين وسويداء القلب وجناح الغراب ولعاب الليل وألوان دهم الخيل، مداد ناسبَ خافية الغراب واستعار لونه من شرخ الشباب".
 
©جميع الحقوق محفوظة لموقع المدن 2024