ديبا وأمهات الصمت

زينة علوش

الجمعة 2017/01/06
كانت مؤثرة فعلاً رحلة البحث عن ديبا دارماسيري. محزنة صورتها الأخيرة وهي تتردد في البوح عما عاشته. عيناها الخائفتان، والخشية من فضح سرها الدفين، وذلك الانسلاخ القسري عن رضيعتها التي سكنت رحمها تسعة أشهر كاملة، كل ذلك الألم المكتوم أضحى سرطاناً أكل عمرها.
زينب وحدها كانت على يقين بأن أمها ضحية، وأن عليها البحث عن جزئها المخلوع. قد نطرح الكثير من الأسئلة عن سبب بحث زينب عن أمها، وعن ذلك التوجس من أبيها الوحش.

الجواب أبسط من أي شرح. ألم تكن زينب في رحم أمها؟ ألم تعش معها الخوف، والاضطراب، والضغط، وربما الاعتداء المتكرر أثناء الحمل؟ ألم تشهد، في رحم أمها، ديبا دارماسيري، على مسار قهر، وذل، وقلة حيلة؟ وهي، ديبا دارماسيري، وحدها في ظل نظام مكتمل البشاعة. 

لن أسميه نظاماً أبوياً، فهذا يقلل من المسؤولية القانونية، لأن المتورطين في هذه القصة والشهود عليها لا يقتصرون على الرجل المعتدي، ولا على الكفيل، ولا على صاحب المكتب. هي الدولة المسؤولة عما حدث لديبا دارماسيري، وعما حدث ويحدث لنساء كثيرات.

ليست صدفة أبداً أن يتناول برنامجان قضية البحث عن الجذور في أسبوع واحد. ريما كركي، في "للنشر"، استضافت أيمن الديراوي ابن هاديا الذي عاد للبحث عن جذوره بعدما جرى تبنيه من قبل عائلة تونسية إثر مجزرة صبرا وشاتيلا. ورغم أن الحلقة لم تنل التعاطف نفسه، لكنها تؤكد على الحاجة الأزلية لمعرفة الحقيقة.

نحن  نشهد يومياً على وثائق وأدلة تؤكد أن لبنان مشرّع بالكامل على عمليات فصل قسري عن الأم البيولوجية، تحت ذرائع متعددة، تدعي حماية مصلحة الطفل وتأمين فرص حياة أفضل له. لكنها في الحقيقة صورة فاضحة عن سلسلة من انتهاكات غير اخلاقية على مستوى حقوق الإنسان والطفل معاً. 

28 ألف طفل هم ضحايا الفصل القسري عن الأهل، 24 ألف في المؤسسات المتعاقدة مع وزارة الشؤون الاجتماعية، بالإضافة إلى ما يقارب 4 آلاف طفل في دور الأيتام غير المتعاقدة مع الوزارة. ونضيف إلى هذا الرقم حوالى 10 آلاف طفل جرى تبنيهم بطريقة غير شرعية خلال السنوات الممتدة منذ ما قبل الحرب اللبنانية وإلى يومنا هذا. 

نقول أنها حالات تبنٍّ غير شرعي لأنها تحدث خارج إطار أي قانون مدني يرعى عملية الفصل. وهي في أغلب الأحيان تتم في ظروف قسرية تضع الأم تحت تهديدات محتملة، وضغوطات قاهرة، وترغيب بالمال القليل. كما أنها تدار من قبل شبكات منظمة يتورط فيها أطباء، وقابلات قانونيات وغير قانونيات، ومخاتير، ومحامين، وصولاً إلى المعنيين باستصدار الوثائق الثبوتية وجوازات السفر.

كل يوم تردنا، في جمعية "بدائل"، طلبات من قبل أشخاص، جرى تبنيهم بطريقة غير شرعية خارج لبنان، لمساعدتهم في البحث عن أمهم البيولوجية. يرسلون لنا وثائقهم، التي تحمل في أغلب الأحيان معلومات مزورة كوثيقة الولادة، وإسم الأم البيولوجية، وتاريخ الولادة. لكنها وثائق، حين نعمل على تحليلها، تؤكد لنا فداحة التورط الجرمي الذي أدى إلى خلع رضيع عن الأم البيولوجية. والأمهات، منهن الباقيات على قيد الحياة ومنهن اللواتي أسلمنا الروح، مثل ديبا دارماسيري، يكتُمن حسرتهن ويتهاوين تحت ثقل الألم، والحسرة، والخوف من الفضيحة. 


كل يوم تردنا طلبات ملحة لأشخاص يعلقون حياتهم كوقت مستقطع إلى حين معرفة الحقيقة. ومنهم من لا يرغب في عرض حياته كميلودراما مبكية على شاشات التلفزيون في ليلة عيد. وهذا لا يقلل من أهمية ما قام به مالك مكتبي في وثيقتي الإدانة اللذين سطرهما في حق نظامنا المتوحش. ولكن، ماذا نفعل بـ10 آلاف زينب و10 آلاف ديبا دارماسيري؟

ماذا نفعل، والمتورطون ما زالوا هناك، يقبضون على أسرار الاتجار بالأطفال، لا يبوحون بالحقيقة لأنها تفضح ارتكابات جرمية، ومرعبة، وممتدة. 

أما نحن، ورغم كل الوثائق، فنقرّ بأننا غير قادرين على تلبية كل الطلبات الملحة للمساعدة في البحث وذلك لأنها عملية تحتاج إلى الدعم المالي ولأنها عملية تحتاج إلى حصانة ما تحمينا وتحمي الأم البيولوجية. هي عملية تضعنا، مع الأشخاص الباحثين عن أمهاتهم، تحت رحمة القابض على المعلومات. ففي يده الترياق وهو دسّاس السم أصلاً. 

وعليه، أستثمر فرصة ذلك التعاطف العارم والمستحق مع ديبا دارماسيري، لأعيد فتح ملف الحق بالجذور، والذي حاولنا، كجمعية "بدائل"، طرحه في أجندة العمل الاجتماعي في لبنان. ورغم المحاولات الحثيثة، والإمكانات المادية المتواضعة جداً، لم نتمكن بعد من إحداث تغيير فعليّ على مستوى القرار السياسي للبحث جدياً في قضية فصل الأطفال قسرياً عن الأم البيولوجية، عبر التبني غير الشرعي أو عبر الإيداع في المؤسسات الرعائية. 

هي مناسبة أيضاً للتوجه إلى الحكومة الجديدة بشكل عام، ووزير الشؤون الاجتماعية بشكل خاص، لإيلاء ملف الفصل القسري عن العائلة البيولوجية الاهتمام الأكبر لأنه موضوع يمس بالأمن الاجتماعي لكنه يتخطاه إلى المساس بالأمن القومي. فلقد أظهرت الدراسات العالمية أن حوالى 95% من حالات التبني عبر البلاد تفشل في سن المراهقة، وأن نسبة تمثيل المفصولين قسراً عن الأم البيولوجية في السجون تصل إلى أكثر من 50% إضافة إلى ارتفاع نسبة الإدمان على الكحول والمخدرات والدخول في نزاعات مع القانون عند الأغلبية. ونحن في لبنان نتغاضى عن ذلك كله، حتى أننا ننتصر للمغتصب في دور الرعاية وللمتاجر بالأطفال تحت ستار عمل خير وهمي يستنزف موازنة وزارة الشؤون الاجتماعية لحساب الزبائنية. 

لن أعيد التذكير بفشل وزير الشؤون الاجتماعية السابق في انتهاج سياسة اجتماعية تنتصر للضحية، لأننا نتأكد يوماً بعد يوم، من هول ما اقترفته السياسات الاجتماعية المتعاقبة في لبنان قبل الحرب، وخلالها، وإلى اليوم. إرث ثقيل لا بد من فكفكته بطريقة علمية، وهذا لا يتم إلا عبر سياسة مواجهة واعية تعبر بالسياسات الاجتماعية في لبنان من منحدر العمل الخيري المريب إلى ثقافة الحقوق المدنية. 

هو عبور يستدعي مواجهة الحقائق لا التلطي وراء ستار الطائفة. لا بدّ من الاتعاظ من التجارب العالمية التي أخفقت في تدبير بديل ملائم عن الرعاية الأسرية. فصل الطفل عن الأسرة، حتى حين يكون بقصد الحماية وبناء على قرار قضائي مدني، هو أبغض الحلال وتترتب عليه نتائج خطرة تؤكدها الإحصاءات العالمية. فكيف إذا جاء الفصل بسبب الفقر أو بسبب قرار أحوال شخصية طائفي ينتصر للأب في أغلب الأحيان، فيمنحه حضانة الأطفال ليتخلى عنهم لصالح دور الرعاية؟ 

وبعد.. فتلك السكين الذي استخدمها ذلك الوحش لينهش جسد ديبا دارماسيري، تنغرز في قلوبنا جميعاً، نحن الشهود والصامتون والمكتفون بالتألم. تحية لك يا زينب لأنك آمنت بأمك ومنحتها سلاماً تستحقه ديبا. وأنت يا زينب، ما قمتِ به، منح أمهات الصمت نافذة تُفتح على أمل اللقاء.

ديبا دار ماسيري.. يا أمنا... سامحينا.
©جميع الحقوق محفوظة لموقع المدن 2024