تتبع "الأخلاق" في مصر: "أبلة فاهيتا" نموذجاً

أحمد ندا

الجمعة 2017/12/29
لا جدال في أن "أبلة فاهيتا"، باتت نموذجاً مربكاً تماماً لمتتبعي الأخلاق في مصر. فهي في النهاية "دمية"، لكنها دمية تخرج عن التصور العام للدمية التقليدية بكل حمولتها الطفولية وطاقتها في إمتاع الأطفال، والتي تتحول عن طبيعتها "البريئة" تلك لتصبح مخصصة للكبار فقط. كان ذلك التحول مربكاً لمتلقيها خارج السياق الإلكتروني.

20 مليون مشاهدة في "يوتيوب" ومثلها تقريباً في "فايسبوك"، وصل عدد مشاهدي إعلان "أبلة فاهيتا" الممنوع. فالمنع التلفزيوني لم يترك أثراً إلا في جعل الإعلان أكثر رواجاً. وكانت هذه الارقام كافية لأن يتحرك "المجلس الأعلى للإعلام"، قبل أيام، بدوره المُنظّم لأوهامه الأخلاقية المسببة لتأسيسه على يد الرئيس عبدالفتاح السيسي، وبرئاسة طريد نقابة الصحافيين مكرم محمد أحمد.

تحرك المجلس بقرار لمنع الإعلان الأخير لأبلة فاهيتا مع شركة فودافون، وأصدر خلال اجتماعه، الخميس الماضي، برئاسة مكرم محمد أحمد، قراراً بمنع عرض وإذاعة الإعلان، نظرًا لما "يحتويه من مشاهد وألفاظ لا تليق بالذوق العام، وتجافي كل القيم وتحض على السلوك السيئ، فضلاً عن هبوط مستوى الذوق العام له". وأوضح المجلس في قراره أنه كان يتوسم في شركة "فودافون" أن "ترقى بالذوق العام، لكنها أساءت لنفسها ولكل المصريين، لذلك اتخذ المجلس هذا القرار حمايةً للذوق العام".

أقل من دقيقتين إعلانيتين، حركت المجلس للحفاظ على ما أسماه "الذوق العام"، وهو تعبير يستخدمه مرة أخرى رغم أنه مصطلح لا يوجد تعريف محدد له، وإن كان المجلس يجرب دائماً تخمين معناه على أنه مجرد تأطير لما اصطلح على تسميته بـ"أخلاق الطبقة المتوسطة" وهو المفهوم الأكثر رواجاً لـ"المحافظة" الناصرية بشكلها الأكثر أصالة، وهو ما يجعل المجلس ومؤسسات "الحسبة" الجديدة تتبع ذلك التصور لضبط كل ما تراه خروجاً عن ذلك الوهم الأخلاقي.

والحال أن هذا النوع من الأخلاق العامة يرتبط كثيراً بالرئيس الراحل جمال عبدالناصر، عبر حكايات متواترة، منها رواية شهيرة في ستينيات القرن الماضي عندما عرف أن مسابقة بعنوان "أبو عيون جريئة" تجري في شاطئ المنتزه بمدينة الاسكندرية لاختيار أحلى شاب. فأصدر عبدالناصر أوامره بوقف المسابقة وإلحاق الشباب المشاركين فوراً بمعسكر للتجنيد، وحلق لهم شعورهم تماماً، وقال قولته الشهيرة: "خلوهم رجالة".

دائماً ما تتردد هذه الحكاية، وحكايات شبيهة، للإشارة إلى الانضباط الأخلاقي المطلوب في صورة المجتمع المنشودة في خيالات رجال الدولة المصرية الآن.

وفي محاضرة "مقاربة لغوية لدمية وقحة"، حاول الباحث الفرنسي فريدريك لاغرانج، تفصيل القوة اللغوية والاجتماعي لأبلة فاهيتا: "أبلة فاهيتا واقعة على تقاطع تقاليد ساخرة، المحلية منها والعالمية، شأنها في ذلك شأن لغتها تماماً: فالدمية كوسيلة للتعبير عن المسكوت عنه سياسياً واجتماعياً، حيلة قديمة قدم أراجوز العثماني واشتقاقاته العربية.. كما أن الدمية عادت إلى مقدمة الإعلام الحديث في صيغة محدثة، تستهدف جمهوراً من الكبار.. أضافت إلى ذلك التقليد المحدث صبغة الدلال الأنثوي الطفلي الخاص بباربي بحيث يتلذذ مبدعاها بتطوير وإثراء جانبها المراهق، بإلباسها شتى الأزياء، وتصويرها كإحدى العارضات المشهورات، الأمر الذي يعزز الشحنة الملتبسة (الكوير) الكامنة منذ بدايتها".

والمقصود بالـ"كوير" هنا "هو ما عرّفه فرانسوا كوسيه، بأنه "سعي معد يتعمد إفساد القناعات ويتمثل في استكشاف كل خطوط التماس والمناطق المبهمة التي تختلط فيها الهويات النوعية الجنسية. وتتراوح شدة هذه الشحنة بين قطبي المذكر والمؤنث". بصفة عامة تحولت أبلة فاهيتا إلى "أيقونة تتصرف كالديفا النزقة، المتقبلة المزاج، المستعبدة لبنتها، المحاطاة بمعجبيها المتلهفين كمحاكاة ساخرة للأيقونات الغاي gay. بعد فقد الأبلة لبعدها السياسي، واستحالة الحفاظ على جانب نقدي احتجاجي، في غير مجال التلميحات (الإباحية) في الظروف السياسية الراهنة. و"لأبلة فاهيتا لغة فردية، تكونت حلقة بعد حلقة واسكتشا بعد اسكيتش، حتى صارت (سيما) بين مريديها، كاللغة المتغلقة التي يتكلم بها الإخوة التوأم. لغة لن يشعر بغرابتها وطعمها إلا الناطق بالعامية القاهرية أو المتمرس فيها. كلمات ومزايا صوتية عند نساء عائلته المسنات".

ذلك الارتباك الدولتي تجاه أبلة فاهيتا، تمثل مرات متعددة، أولها من طرف أحمد سبايدر المهووس بالمؤامرة، قبل أن تتبناها الدولة كلياً، العام 2014. ومع صعود أبلة فاهيتا وانتشارها الجماهيري الكبير، قال سبايدر إن شخصية "فاهيتا" تستخدم الشيفرة لتوصيل رسائل معينة. إذ أنها تتمتم بكلمات غير مفهومة، وتستخدم عبارات متقطعة لا معنى لها، مؤكداً أنه إذا تم تجميع هذه الشفرات بطريقة معينة ستنتج عنها جمل منظمة، تؤدي كلها للمؤامرة على مصر. ناهيك عن عداوات شخص مثل المستشار مرتضى منصور، لها لمرات كان آخرها هذا العام، موجهاً لها اتهامات واضحة، باعتبارها "شخصية حقيقية" لا مجرد دمية وراءها فريق إعداد كبير.

مُنع الإعلان، على الرغم من مساحات "الإباحة" في البرنامج نفسه، أحد أسباب قوتها وانتشارها، مسببة ارتباكاً كبيراً لهؤلاء الذين لا يمكن أن يفهوا الأخلاق خارج الإطار الناصري البالي الضيق. اللافت أن البرنامج ما زال مستمراً بمستوى من الحرية أعلى كثيراً من الإعلان، لكن يبدو أن المجلس أراد أن يظهر في الصورة، وأن يظهر عضلاته الرقابية لا أكثر.

©جميع الحقوق محفوظة لموقع المدن 2024