هتلر في الضاحية الجنوبية

حلا نصرالله

الأحد 2017/11/12
في أكثر من زقاق في الضواحي الجنوبية البائسة لبيروت، تكتسي جدران أبنية برموز النازية. جدران تزينها صلبان معقوفة، وأقوال منسوبة إلى هتلر. 

على أحد جدران حي العباس في حي السلم، كتب عابر سبيل: "يقول هتلر: إن لم تجد أشخاصاً حاقدين عليك، فاعلم أنك إنسان فاشل". وفي منطقة أخرى، رَسم أحدهم صليب النازية بحجم كبير، غير أن موقعه لا يسمح للفرد بأن يرفع هاتفه ويلتقط صورة، بسبب الضرورات الأمنية. بينما خطَّ شخص آخر، في شارع دكاش في بئر العبد،  إسم "حزب الله"، و"سوريا الأسد"، ولم ينسَ ان يضع في منتصف الحلقة، شعار النازية. ولا تقف الظاهرة عند الجدران، بل باتت أيضاً داخل المحال التجارية حيث تباع الإكسسوارات، والتي صارت مؤخراً تعرض قلادات بشعار النازية.. وكأنها آخر صيحات الموضة.

لا يمكن التنبؤ بالأفكار التي في الرؤوس عن هتلر، أياً كان المعجب بالشعارات وكاتبها أو راسمها. لكن المؤكد أن هتلر ورموزه، وهو الذي شارك في صناعة ويلات الحرب العالمية الثانية، يتمظهر على الجدران المهمشة بلا أدنى شعور بالحرج.

لعله ليس جديداً ذاك الهوى النازي، ليس بين النازيين الجدد في أوروبا وأميركا فحسب، بل بين العرب أيضاً، ومنذ زمن ليس بقصير. لم يُخفِ عرب ومسلمون كثر، حبهم لهتلر، وبينهم حزبيرون وقادة وملوك، وذلك باعتباره "صياد اليهود"، والخلط دائم بين اليهود وإسرائيل والصهيونية. ويستشهد عروبيون كثر بكتاب "صناعة الهولوكست" للأميركي اليساري، نورمان فنكلستاين، للتقليل من شأن المحرقة كقضية أخلاقية تاريخية، بل وربما لنفيها تماماً.. والله أعلم كيف يقرأون الكتاب وكيف يتبنون ما يقرأون، بلا نقد أو تحليل. وحتى وقتنا الراهن ما زال بعض الأحزاب اللبنانية، التي تأسست على هوامش تجربة النازية والفاشية، موجودة بيننا، وتمارس "السياسة".

لكن، ماذا في دواخل أحياء بيروت، مما يجعل التوأمة مع الزعيم النازي وإستعادته بهذا الزخم، امراً سهلاً إلى هذه الدرجة؟

ربما الزعامة، ففي كل حي فقير، زعيم صغير، أو ما يطلق عليه لقب "الأزعر"، ومثال على ذلك أصحاب المولدات الكهربائية، الذين يمنعون السكان من الإشتراك في مولدات كهربائية أخرى لا تعود لملكيتهم. هذا "الزعيم الصغير"، يفرض خياراته المادية والمعنوية على ابناء الحي، الأدنى منه في القوة والإرادة. وربما الفقر أيضاً، كنموذج أورويلي.

ومثل تلاميذ المدارس، يهم آلاف الأشخاص بانضباط، إلى العمل ساعات طويلة، ليحصلوا في نهاية المطاف على حدهم الأدنى من الاجور. بالإضافة إلى البطالة الساحقة التي تفتت أعصاب  الشباب، ومافيات المولدات الكهربائية، وأصحاب "ساترنات المياه" الذين يتسلون بأرواح المواطنين المنهكين، ولا ننسى ميلشيات "الخوّة".

إن ظاهرة شعارات النازية ليست حالة معممة في الضواحي البيروتية، لكنها جديرة بالمراقبة وباستشعارها لدى الأفراد. حالة الفوهررية المستوحاة من النازية، تأكل كل شيء. اعتقاد بأن الزعيم لا يخطئ، لكنه أيضاً لا يعلم بالكثير من الانتهاكات التي يقترفها أزلامه. وهو، في الوقت عينه، يراقبهم عبر كاميرات منتشرة في كل حدب وصوب، ويدرك عددهم، ومتأكد أنهم سيحبونه الى الأبد.

في العام 2017، تبدو ضواحي بيروت الفقيرة، قاب قوسين أو ادنى من رواية 1984 لجورج أورويل. ويتحسس المرء، إنكماش كل فئة إجتماعية على نفسها. للفقراء مقاهيهم، بينما يتناسل أبناء الطبقة الوسطى في مناطقهم المزينة بالأشجار والمطاعم. رواية أورويل تحكي عن العزلة الكبيرة، وتشابه الضواحي البيروتية المنهكة. الإنضباط الصارم، والإلتزام الذي لا رجعة عنه. والعزلة الكبيرة، جاءت تُرى في هذه الضواحي، "بأبهى حللها"، مع الطوق الأمني الذي فرض خلال مراسم عاشوراء الفائت. حينها، كان الشعار الكبير، منع السوريين والفلسطيين من التجول في المنطقة. و"الأخ الأكبر" يتجسد دائماً في شاشات التلفزة. وحين يلقي د خطابه الأسبوعي تتوحد الأصوات في الشوارع، فكل المقاهي تُخرج شاشة بيضاء ضخمة، في مشهدية تشبه كارنافال للشاشات، يتحرك عليها وجه زعيم واحد، وتصدر الشاشات صوت شخص واحد.

وخلال السنوات القليلة الماضية، شهدت هذه المناطق تنافساً غير مسبوق على اقتناء الأسلحة الفردية، في تعبير صارخ عن إنعزالية الأفراد، وإيمانهم بأن أحداً لن يردّ عنهم الأذية سواهم. ويهرول الآلاف لمعانقة شبح المخدرات، كشكل آخر من أشكال الغرق في الذات والتوحد. هذا الواقع، تنفي وجوده القوى الحزبية التي تصنع دائماً صورة مجيدة، وأحياناً سوريالية لواقع مناطقها.

لعل في كل ما سبق، وأكثر، منابع الأجواء التي تسمح لهتلر بأن يحتل الجدران. وحتى عندما طفح الكيل، ووجّه مواطنون إنتقادات حادة للزعيم بسبب أوضاعهم المعيشية المزرية، سرعان ما أعلنوا "التوبة" واعتذروا، تماماً كما فعل "بوينستون" الذي عاقبته "وزارة الحب" في "1984"، فاعتذر عن حبه لصونيا.

ممنوع أن يحب الفرد، غير الزعيم. العزلة تعتقل المخيال الجماعي. ويمسي هتلر المهزوم في ألمانيا وأوروبا، منتصراً في ضواحي بيروت.
©جميع الحقوق محفوظة لموقع المدن 2024