الصحافي الإله.. ضابط الفداحات السياسية

أحمد ندا

الأربعاء 2016/02/17
لم تُقابَل إشاعة موت محمد حسنين هيكل بأكثر من الإفيهات عن "خلوده". النكات عن عمره المديد تصل إلى الشطط الإلهي، تستقر وراءها قناعة بأن "صحافي كل العصور" سيكون موته ملحمياً، مثلما كانت حياته. لم يكن مثل مبارك، تتردد إشاعات موته مرة في الشهر، بل هي المرة الأولى التي يقترن فيها اسم هيكل بالموت. هذه المرة، قوبلت الإشاعة بالتمني وعدم التصديق، لكنه أخيرا فعلها.

"مات هيكل" العبارة، تبدو على بساطتها في أوج دراميتها كأنها جمعت بين ضدين: الموت وتمثّل بشري لمفهوم الحياة. موت هيكل في منتصف تسعينياته كان مباغتاً، على توقعه، مفاجئاً حتى لمتمنيه، ربما "جميعنا في جزء ما من أنفسنا نعيش وراء الزمن، ربما أننا لا نَعي عمرَنا إلا في لحظات استثنائية، وأننا معظم الوقت أشخاص بلا أعمار"، كما يقول كونديرا. لكن هيكل عاش عمره تاما، سنوات استثنائية كان فيها في مقدمة كل شيء، جزء أصيل من بنية السلطة.

راهن على جمال عبد الناصر في لحظة صراعه مع محمد نجيب وربح رهان الاستمرار لسبعة عقود تالية. من صحافي وسط نجوم لامعة كالأخوين أمين والتابعي والحمامصي وعبد القدوس وبهاء الدين، إلى "الصحافي" بألف ولام التعريف، تحولت معه وبه المهنة إلى وجاهة سلطوية. عندما اقترب من ناصر وصار لصيقاً به، لم يصعد وحده، بل صعّد الفكرة العامة عن الصحافة، لا كسلطة رابعة كما يقال، لكن بوصفها من متعلقات الزعيم من دون تفاهة الدعاية الرخيصة، بل دعاية أعمق تأثيراً: صناعة فكرة الجماهير وصناعة فكرة الزعيم.

الفكرتان تصبان عنده، ليعيد تشكيل العلاقة إلى أعلى وأسفل. أسطورة عبد الناصر كانت مكسبا شخصيا لهيكل "الشاب الثلاثيني" وقتها. أسطورة عبد الناصر تعني أسطرته هو الشخصية، وأنه لم يكن أبداً جزءاً من حكاية خرافية، بل هو صانعها الأساسي، خالقها لتكون جزءاً منه، لا العكس.

المحطات التاريخية في حياة هيكل معروفة ومعلنة، فهمها والوقوف عليها يعني التأمل في تاريخ مصر الحديث، ربما تاريخ المنطقة العربية، وربما تاريخ الكرة الأرضية كلها. إذ كان هيكل على مسافة قريبة من كل صناع القرن العشرين في السياسة والاقتصاد والثقافة والفن، من خورشوف إلى تيتو، ومن مارلين مونرو إلى جيفارا، ومن سارتر إلى إلفيس بريسلي. هذه هي الأسطورة المتجاوزة لفكرة القرب من النظام. عبد الناصر لم يكن أكثر من جسر إلى ذاته التي لم تسعها الأرض ولم يسعها قرن من الحياة.

هيكل هو السلطة المتجاوزة لفكرة السلطة، المخترقة لكل الأوهام الموضعية عن الاختلاف إلى الركوب على هذا الوهم وتنصيب نفسه حكيماً للبشرية كلها، صانع فكرة "الجماهير" المستمر تأثيرها إلى الآن في نسخة الناصرية الباهتة الركيكة الموجودة في مصر الآن، قادر على خلق أفكار صالحة للاستخدام العالمي، بعدما هيأها لبضاعته اللغوية ومزاج صناعته للتاريخ، استطاع أن ينصب نفسه "الأستاذ" وسار وراءه العالم.

هيكل عاش 94 عاماً في بلد يموت فيه الشباب في العشرينيات برصاص الدولة التي صنع شرعيتها وأسباب بقائها المشهدية. لكن موته يتجاوز فكرة "الخلاص" من آخر أعمدة دولة يوليو، بل هو موت "الصحافي الأوحد"، الصحافي الرمز، في بلد مثقلة برموز وآحاد: الغناء يعني أم كلثوم، التلحين يعني سيد درويش، التمثيل يعني عادل إمام، الزعيم يعني جمال عبد الناصر، والصحافي يعني محمد حسنين هيكل... كلهم ذوو مواهب/إمكانات كبيرة لكنها لم تتحول إلى استثنائية إلا بصناعة صورتهم خارج الزمنية. أنبياء الحداثة الراسخون رسوخ الدين، بعدما تحولوا نماذج مفاهيمية. مراجع معرفية وجمالية يقاس عليها وبها.

هيكل ساهم من صناعة بعض هذه الرموز، وصناعة نفسه على مستويات عديدة. فهو القريب من مصادر صحافية لم يتمكن صحافي عربي في العصر الحديث من الاقتراب منها مثله، بل هو واحد من صناع القرار. مَن ينتزع الخبر من مصدره هو الصحافي المجتهد، أما من يشارك في صناعته فهو هيكل، وهيكل فقط.

هيكل مرتبط بدولة يوليو. موهبة التضليل، مهارة استخدام اللغة في تزييف الواقع والوقائع، هندسة الخسائر باعتبارها خطوة على طريق المكاسب، لتتحول هزيمة 1967 على يديه إلى "نكسة" وتبادل إطلاق النار الصبياني العام 1970 إلى "حرب استنزاف"، وصراع السلطة بين السادات وبقية رجال الدولة إلى "ثورة تصحيح"... وهكذا تتجمل الفداحات السياسية والتاريخية.

هيكل الذي حول منصب رئيس التحرير إلى واجهة ووجاهة. علماً أن منصب رئيس التحرير، من حيث المبدأ، هو للرجل الأكثر عملاً والتحاماً باليومي، القادر على متابعة كل شيء ومتابعة العاملين معه وضبط مساراتهم. مع هيكل تحول المنصب شرفياً، على مسافة بعيدة من المحررين. رئيس التحرير في الصورة الهيكلية هو "رئيس" استُحدثت له بروتوكولات زعامة، لا ينشغل باليومي إلا بقدر المساحة التي يكتب بها عموده في الصفحة الأولى بالجريدة، تحولت "الأهرام" في عهده إلى مؤسسة ضخمة في شارع الجلاء في وسط البلد، وربما مرّت على صحافييه شهور من دون أن ينالوا حظ رؤيته، في برجه العاجي العالي متجرداً من بشرية الصحافي إلى ألوهة رئيس التحرير.

يعرف هيكل كيف يظهر بمظهر الموضوعي الحكيم، حتى وإن كان الانحياز واضحاً. عندما يكتب في تمجيد جمال عبد الناصر يكتب "لمصر لا لجمال عبد الناصر". هنا ينخدع القارئ بأن مصر هي جمال عبد الناصر، وجمال عبد الناصر هو مصر، لا انفصال بينهما. وبعد أن يقصيه السادات ثم يحبسه في نهايات عهده، يكتب "خريف الغضب" لينتقم منه انتقاماً أبقى من أيام سجنه البسيطة. أرشيف هيكل مليء بالفداحات يضبطها على مصلحته الشخصية.

هكذا رآه الدكتور فؤاد زكريا في سلسلة مقالات كتبها بعد "خريف الغضب"، بعنوان "كم عمر الغضب". إذ رأى أن هيكل أرشيف، مطلع على مصادر لم يطلع عليها غيره، قد يكون كلامه عن السادات صحيحا –على انحطاطه ووضاعته- لكنه أخرجه بعدما انتهت ذاته المتضخمة في سجون السادات المجنون بعظمته في أيامه الأخيرة، حرب ذوات لا ينتصر فيها إلا القادر على التدوين.

انحيازه لثورة يناير لم يكن إلا بعد جفاء طويل بينه وبين حسني مبارك، مخلوطاً برهانه على المستقبل –ثانية- بعد رهانه الأول على جمال عبد الناصر، ثم انحيازه الركيك إلى المجلس العسكري ثم ضد الإخوان ثم مع السيسي. حساسيته ضربها الترهل، الصيرورة الثورية فرمت أسطورته، وتجاوزته، ورأت انتهازيته وهي مكشوفة بلا حيلة لغوية أو قرب حميم من سلطة. انكشفت الخدعة بأكثر الطرق رثاثة. جمع اسمه مع توفيق عكاشة لتُحال أراجوزات الإعلام الحالي إلى المهرج على حساب "الأستاذ" ملوحين بدفاتر التاريخ الذي صاغه وتفنن في تزويره.

قبل 15 عاما استأذن هيكل بالانصراف، أي ترك الصحافة، لكن عينه كانت على التلفزيون، يذهب إلى الأكثر تأثيراً، ليثرثر بالساعات عن تاريخ مصر/تاريخه الشخصي. الأستاذ يعزز من صورته كآلهة، ويتخبط في التاريخ، لكن دراويشه يتجاوزون أخطاءه ويحولون كلامه إلى قرآن شخصي. ثم لما أنهكته الذاكرة، ارتضى أن يكون ضيفاً أمام لميس الحديدي، يتلمس خطى مستقبل لن يشهده.

لم يستأذن هيكل بالانصراف هذه المرة، بل انصرف وقد نجح في تثبيت أسطورته عن مهنيته وتأريخه وأهميته، وربما موته الآن هو المناسبة الأهم لتفكيك ذلك كله.
©جميع الحقوق محفوظة لموقع المدن 2024