عالَم بلا عمل.. الحتمية التكنولوجية تحاكي قطاع غزة

شادي لويس

الجمعة 2017/05/19
خلال العقد الأول من القرن التاسع عشر، اندلعت ثورة "اللوديين" في شمال إنجلترا ووسطها، فعمال النسيج الذين سلبتهم الالآت الحديثة وظائفهم وأجورهم، انطلقوا في انتفاضة عفوية لتحطيم تلك الالآت، متنقلين من مدينة إلى أخرى لإحراق المصانع ومهاجمة أصحابها. تم إخماد الثورة بإعدام عشرات اللوديين علناً ونفي جماعات منهم إلى أستراليا، لكن ما بقي من تاريخهم هو ما يشار إليه في فلسفة الاقتصاد ودراسات التكونولوجيا بـ"مغالطة اللوديين".


فمنذ انطلاق الثورة الصناعية نهاية القرن الثامن عشر، دفعت كل مرحلة من مراحل التطور التقني إلى التساؤل عن مستقبل العمل، فماذا سيحدث عندما تحل الآلات بدلاً من البشر؟ ثبت دائماً أن فرضية "اللوديين"، أي افتراض أن التقدم التكنولوجي سيقضي على الوظائف ويقود إلى مستويات كارثية من البطالة، كانت خاطئة تماماً، وعلى النقيض من الواقع التاريخي. وفيما تتجاهل غالبية النظريات الاقتصادية الليبرالية، الآثار الكارثية للمراحل الانتقالية من نظام إنتاج إلى آخر وتنظر إليها بوصفها عرضاً جانبياً ومؤقتاً للثورات التكنولوجية، فإن النظريات الماركسية ترى فيها، من خلال عملية "التدمير الخلاق"، جوهر عمليات الرأسمالية ودوراتها، أي شحذ كفاءة وسائل الاستغلال للموارد والقوي العاملة.

تعود مسألة مستقبل العمل، مرة أخرى، إلى الواجهة فبعد التحول الجذري الذي أدخلته ثورة المعلومات على سوق العمل، وتمدد الشبكات الافتراضية وعوالمها الموازية، فإن التسارع الهائل في إحلال البشر بالروبوتات في العقد الأخير دفع إلى مراجعة فرضية "اللوديين" مرة أخرى. فبعد أكثر من عقد من التجارب على السيارات ذاتية القيادة والتي ثبتت كفاءتها التي تتخطى إمكانات القيادة البشرية بمراحل، وتخلي شركات التأمين اليابانية والقطاع المصرفي البريطاني على سبيل عن نسبة معتبرة من العمالة، في العامين الماضيين، لصالح قيام الروبوتات وبرمجيات الذكاء الاصطناعي بعمليات تقييم المخاطر الائتمانية بإشراف بشري محدود، فإن الأسئلة لم تعد متعلقة فقط بإمكانية نهاية العمل من عدمها، بل عن عالم ما بعد العمل وكيفية إدارته.

ينطلق أصحاب النظريات التكنولوجية الطوباوية إلى أن إحلال الروبوتات محل البشر سيقود إلى عالم بلا عمل، تتولى الحكومات والمجتمعات فيه توفير حد أدنى من الدخول لأفرادها، فيما تظل معضلته الأكثر إلحاحاً هي وقت الفراغ والحاجة إلى معنى للوجود الإنساني الفردي والجماعي.

تظل القرائن المتوافرة غير حاسمة. ففي الولايات المتحدة نسبة أعلى من خمسين في المئة من المهن الحالية تم خلقها خلال الأعوام المئة الماضية بفضل التحول التكونولوجي، وفِي الوقت ذاته فإن خمسين في المئة من وظائف السوق الأميركي من المتوقع لها أن تختفي خلال العقود الثلاثة المقبلة للسبب نفسه. وفِي بريطانيا، على سبيل المثال، لا مؤشرات على تراجع الوظائف منذ الثمانينيّات إلى اليوم، فالتحول من الإنتاج الصناعي إلى اقتصاد الخدمات والتكنولوجيا العالية، اقترن بزيادة في عدد الوظائف وساعات العمل السنوية للفرد، وضم نسباً متزايدة من النساء إلى سوق العمل، بل ومد سنّ المعاش أكثر من عشر سنوات. واقترن ذلك بخفض النفقات العامة، وسعي حكومة المحافظين البريطانية بشكل منهجي، في العقد الأخير، لدفع قطاعات مستثناة من العمل، مثل المعوقين والمصابين بأمراض نفسية إلى الانخراط في سوق التوظيف قسراً، وهي السياسة التى قادت لأن تصل نسب التوظيف إلى أعلى معدلاتها في ثلاثة عقود.

لكن تلك المقدمات التي تبدو متناقضة، سرعان ما يزول تعارضها إذا ما تخلينا عن منطق "الحتمية التكونولوجية"، فعملية التوظيف تبدو خاضعة لعوامل سياسية واجتماعية لا تقل تأثيراً عن العوامل التقنية. فتداعي معدلات التوظيف في إسبانيا واليونان وإيطاليا يبدو متعلقاً أكثر بالسياسات المالية لا التكنولوجيا، وتبدو معدلات التوظيف العالية في بريطانيا مدفوعة بأيديولوجيا الحزب الحاكم. وفِي الولايات المتحدة، يشير تراكم لدراسات تاريخية إلى أن أي تطور تكنولوجي متسارع لا يقترن بتطور بمعدلات مكافئة في تطور نظام التعليم والتأهيل المهني العام ينتهي دائماً بفوارق واسعة في مدى الاستفادة من التكنولوجيا بين الطبقات.

وفي العقود المقبلة، لا يتوقع أن تقود ثورة الروبوتات إلى اندثار وظائف الخدمات الدنيا والمتوسطة، بل تداعي أجورها، واتساع الفوارق الاجتماعية بين المؤهلين وغير المؤهلين للوظائف الجديدة عالية التقنية. وعلى مستوى عالمي، يظل توزيع التكنولوجيات الجديدة والاستفادة منها محكوماً بمواريث خطوط الاستعمار التقليدي مع تغيرات طفيفة، سمحت بهجرة الوظائف الدنيا من دول الشمال إلى الجنوب، لا اندثارها.

لكن كيف لأسئلة عالم بلا عمل أن تشغلنا في منطقتنا؟ تأتي الأجابة من المؤرخ الاسرائيلي، يوفال نوح هراري. في مقال له بعنوان "البحث عن معنى في عالم بلا عمل "، نشر في جريدة "غارديان" البريطانية، الأسبوع الماضي، يكرر صاحب كتاب "موجز تاريخ العالم" (في لائحة الأكثر مبيعاً)، فرضيات "الجبرية التكونولوجية" مفترضاً أن التقدم التقني سيقود لاختفاء العمل، ومن ثم يبقى السؤال عن كيفية إنتاج المعنى في العالم الجديد، وكيفية إدارة وقت الفراغ.

يربط هراري تلك الأسئلة بأفكاره عن الأديان والأيديولوجيات بوصفها واقعاً افتراضياً، مصنفاً إياها في الخانة نفسها مع ألعاب الفيديو. ويضرب مثلاً بالصراع على الأماكن المقدسة في مدينة القدس بوصفها نموذجاً للافتراضي الذي لا يجد ما يبرره في العالم المادي، ويضرب مثلاً باليهود الأرثوذوكس المتفرغين للعبادة في إسرائيل بوصفهم نموذجاً حياً لعالم من دون عمل، فيما يرى في ألعاب الفيديو إحدى الوسائل الافتراضية لملء وقت الفراغ وإنتاج المعنى في المستقبل.

لا يأتي هراري في مقاله بجديد، فأفكاره الأساسية تم طرحها منذ مطلع التسعينات، واليوم تبدو أسئلتها أكثر تعقيداً من مجرد سؤال وقت الفراغ وإنتاج المعنى، فهناك أسئلة تنظيمية بحتة مثل الموارد الضريبية، فهل سيتم فرض الضرائب على الروبوتات المنتجة؟ وأسئلة أخرى أكثر تعقيداً عن مستقبل الديموقراطية في عالم بلا عمل، فمن أين للدولة توفير حد أدنى للدخل للجميع؟ وإذا كان لمالكي أدوات الإنتاج الروبوتية ورأسمالها أن يوفروا ذلك الدخل للغالبية الساحقة من المواطنين المتعطلين بالميلاد، فإلى أي مدى سيكون لمن يملك أن يقرر شكل إدارة المجتمع وأوجه صرف فائض مواطنيه من الأجساد والزمن؟ لكن اللافت للانتباه في مقال هراري هو ما تخفيه فانتازيتها، وما لا تقوله، سواء كان عن عمد أو عن غير عمد.

يلتزم إنتاج هراري بوجه عام، مع اعترافه بتقاطع المادي والمعنوي، بفصل اختزالي وبسيط بينهما. فالصراع على مدينة القدس يبدو له افتراضياً لا تعززه خصوصية مادية لتلك المباني الحجرية التي يتصارع عليها أصحاب الأديان المختلفة. لكن ما يقرره هراري ضمناً هو أن الصراع على القدس هو صراع افتراضي مثل ألعاب الفيديو، ويضع أطراف الصراع المغتصِب والمغتصَب في المستوى نفسه. فكلاهما مدفوع بواقع افتراضي وهمي، والأفدح أنه يمثل الصراع على القدس بوصفه صراعاً دينياً، متجاهلاً أن الصراع في فلسطين هو صراع شديد المادية في أكثر صورها خشونة وقسوة وفتكاً، ولا يشبه ألعاب الفيديو في أي شيء، ويتجاهل أنه من غير الممكن فصل المادي عن المعنوي والواقعي عن الافتراضي في النهاية، ولو استطعنا ذلك فيبدو الأمر بلا معنى سوى بتفكيك الوجود الإنساني ثقافياً واجتماعياً إجمالاً، والاكتفاء بوجودنا المادي في صورته الأكثر بدائية فقط.

وبالعودة إلى اليهود الأرثوذوكس المتفرغين لدراسة النص المقدس والتعبد كنموذج لمجتمع بلا عمل، فيبدو أن مفهوم هراري عن العمل شديد المحدودية والسذاجة. فتاريخياً كان الصوفي والمتعبد والوسيط الروحي والكاهن، جنباً إلى جنب، مع الفنان والساحر والكاتب والمشعوذ وغيرهم من منتجي القيمة، جزءاً أساسياً من منظومة العمل وتثبيتها لا نفيها. لكن ما لا يلتفت إليه هراري هو أن الوضع في الأراضي الفلسطينية هو النموذج الأكثر وضوحاً لعالم ما بعد العمل بالفعل، إنما لأسباب أخرى.

فالمجتمع الاسرائيلي الذي يتمتع، بحسب مقال هراري، بأعلى درجات الإشباع في ما يخص مستوى المعيشة ونسق الحياة، يبدو نموذجاً واضحاً للتفوق التكونولوجي في اقتصاد يعتمد بشكل متزايد على التكنولوجيات العالية والبرمجيات وأنظمة المراقبة والضبط والحرب شديدة الكفاءة والفتك. لكن ذلك التقدم التكنولوجي الفائق لا يقود لمجتمع عاطل، بل على العكس تماماً. فذلك التفوق يصبح ممكناً فقط بتحويل ملايين من الفلسطينيين إلى لاجئين ومحاصرين وقوى معطلة وأجساد فائضة قسراً.

تبدو غزة بالتالي، النموذج الأدق لعالم بلاعمل،. فالغالبية الساحقة من سكانها تعيش بلا عمل ولا أفق لها مستقبلاً، فيما يعتمد القطاع وسكانه بشكل شبه كامل على حد أدنى من الدخل تموله مؤسسات خارجية. يبقى ذلك الوضع المريع ممكناً عبر ممارسة الإسرائيليين لألعاب فيديو حقيقية، بين استراحات جدول أعمالهم الكثيف وإنتاجيتهم الفائقة، حيث تتم مراقبة وضبط وتدمير أحياء وتجمعات بشرية من الأجساد الفائضة بأكملهاـ من وراء الشاشات الإلكترونية وبالحد الأدنى من المخاطرة.

تقدم مقالة هراري وغيرها من أطروحات "الحتمية التكونولوجية"، تزييفاً، ولو من دون عمد، للطبيعة الصراعية لفكرة العمل، وعمليات الإنتاج والقيمة والتطور التكنولوجي وتوزيع فوائده وفوائضه محلياً وعالمياً. وذلك عبر تعامٍ كامل عن الاستغلال المتضمن في كافة صور الإنتاج وتوزيع الموارد، والاكتفاء بتصورات عن يوتوبيا تبدو مشكلتها إدارة وقت الفراغ ولعب "الفيديو غايم".

©جميع الحقوق محفوظة لموقع المدن 2024