عن فتاة "أوتوستوب"

ريما ابراهيم

الأحد 2017/03/19
حدث ذلك منذ زمن بعيد، بعيد لدرجة أنني أستغرب أني ما زلت أتذكّر الحادثة، بل والكثير من تفاصيلها، والأهم أني ما زلت، كلما تذكرتها، أستعيد المشاعر التي اجتاحتني وقتها، بكثافتها وعمقها وعصفها... 
كنت عائدة مع الصباح من زيارة أصدقاء قضيت الليل عندهم في قرية من قرى المتن، ولما كنت يومها لا أزال طالبة في الجامعة، لم تكن معي سيارة ولا أجرة التاكسي لأعود الى بيروت. ولأنها المرة الأولى التي أتحرك فيها بوسائل نقل عام في تلك المنطقة، لم يكن وارداً أن أوقف "سرفيس" لاقتناعي بأنه يحتاج خبرة في الطرق وفي التعامل مع السائق لم أكن أملكها. من أجل هذا كله تقرّر أن يوصلني والد صديقتي إلى منطقة الذوق ويكمل طريقه الى عمله في جونيه.

لم أعد أذكر كيف انتقلت من المسرب المتجه إلى جونيه الى ذاك المتجه الى بيروت. أغلب الظن أني اجتزته فوق جسر للمشاة. لم أعد أذكر أيضاً إن كنت أنتظر الباص في موقف مخصص له، أم في نقطة عشوائيّة على الطريق. أذكر أنني كنت أقف هناك مربكة وقلقة، وكنت أزداد قلقاً وارتباكاً مع تأخر وصول الباص ومع توقف سيارات خاصة لعرض "توصيلة".

وفيما أنا غارقة في تفكيري، أحاول طمأنة نفسي الى قرب وصول الفرج على شكل "باص"، وصلت سيارة وتوقفت أمامي بكل هدوء كأنما هبطت من السماء. وقبل أن أشيح بوجهي رافعة يدي شاكرة السائق من دون أن أسمح لعينينا بالتلاقي، لمحت خصل شعر تتدلى على الكتف. فرفعت بصري لأرى وجه صبية جميلة ترسل ابتسامة لطيفة باتجاهي.

قبل أن أقول شيئاً وحتى قبل أن ترتسم أي تعابير على وجهي، بادرتني بالقول: أنا ذاهبة إلى بيروت، اصعدي لأوصلك في طريقي. 

لا أدري لمَ رفضت بادىء الأمر، مع أنها فعلاً هبطت من السماء لتنقذني من أشعة الشمس التي بدأت تصبح حارقة ومن ضجيج الأوتوستراد والرائحة المنبعثة من عوادم السيارات.
أظن أنني كنت أتمنّع منتظرةً منها أن تلحّ عليّ أكثر، لكي لا أشعر أنني رميت نفسي عند أول إشارة، ولكي أوهم نفسي أني مسيطرة على الوضع تماماً، فقلت لها بلطف: شكراً سيصل الباص في أي لحظة.

فهمت ما جال في خاطري فسارعت لتؤكد لي ترحيبها وحماستها قائلة: اصعدي لنتسلى معاً وننسى الزحام.

هذه المرة استجبت وصعدت لأنه لم يكن من داعٍ للرفض، ولأن في نظرتها رجاءً وتعبيراً آخر لا أعرف تحديده، لكني ما زلت أراه كلّما تذكّرتها، وأخيراً لأن أسوأ ما قد يحصل هو أن أطلب منها في حال أزعجتني أن تتوقف جانباً وتنزلني.

صعدت إلى جانبها، لا أذكر إن تعارفنا، ولا أذكر كيف بدأ الحديث بيننا. انمحت كل المقدمات، أو ربما لم يكن هنالك مقدمات، وإنما مباشرة صلب موضوع.

لا أذكر تعارُفنا، لكني أذكر بكاءها بحرقة طوال الطريق التي دامت ساعة. ليست قصتها المهمة، قصتها عادية: تحب شاباً لكنها ستتزوج غيره. المهم، رغبتها في أن تحكي وتحكي وتبكي...

كانت تجيب على بعض أسئلتي أحياناً، لكنها في الغالب تسترسل في التعبير عن غضبها وحزنها وحيرتها.

في البداية حاولت أن أساعدها، أن أفكر معها، أن أفهم سبب شعورها بأنها محاصرة ومخنوقة ومجبرة، لكني سرعان ما انتبهت إلى أنها لا تفتش عن حل وأنها في هذه الساعة التي سيستغرقها مشوارنا كانت تريد أن تشكي وتغضب وتلعن كل شيء، كانت تريد أن تطلق العنان لمشاعرها، والأهم أنها كانت تريد أن تفعل ذلك من دون أن تضطر لتحمل عواقبه...

فكرت أنها ربما لا تستطيع إخبار أحد في محيطها عن حبها، فكرت أن حبيبها ربما يكون متزوجاً، فكرت أن عريسها ربما يكون ثرياً وحبيبها معدماً، فكرت أنه قد يكون من طائفة أخرى وأنها لا تجرؤ على تحدي عائلتها والارتباط به...

فكرت بالكثير من الاحتمالات وأنا اسمعها وأتأمل ألمها لأفهم لماذا اختارتني. وخلصت إلى أنها لم تخترني وإنما اختارت غريباً آتياً من حيث لا تدري، ذاهباً إلى حيث لا تريد أن تدري، ميزته أنه ذاهب بعيداً من حياتها ومن التأثير فيها، لا يعرفها ولن يراها بعد اليوم، تستطيع أن تقول كل ما يخطر في بالها من دون أن تخشى ارتداد ذلك عليها. 

كانت بكل بساطة تريد أن تسترسل في سرد قصتها من دون رقابة منها أوعليها. ربما حرّفت الوقائع، ربما بهّرت الأحداث، ربما بالغت وافترت ولعبت دور الضحيّة فيما هي الجلاد... لست أدري وليس مهماً ولم يكن يوماً مهماً. 

المهم هو أنني تأثرت وانفعلت وحزنت ودمعت وتواصلت معها، وربما هذا ما جعلها في الأصل تبحث عن شخص تبكي أمامه، عوضاً عن اكتفائها بالبكاء وحدها في سياراتها وهي تخبىء عينيها بنظارة سوداء، عن عيون جيرانها السائقين العالقين في الزحام إلى جوارها. لم تكن تريد أن تشعر أنها وحيدة وآثرت أن تشارك قصتها وأحاسيسها مع غريب التقطته عن الطريق... 

عندما توقفت جانباً لتنزلني، ربتت على كتفها وابتسمت لها ابتسامةً أردتها أن تكون حنونة فهذا ما شعرت به تجاهها، تعاطفت معها وأحسست بوجعها، وتقاسمته معها. هذا ما آمل أن أكون أشعرتها به. خرجت من السيارة وبقيت أنظر إليها إلى أن اختفت تماماً، اختفت إلى الأبد.

لكنها تعود وتظهر في ذاكرتي كلما صادفت غريباً ووجدتني أستمع إلى قصته أو أحدثه عني، وكأنما تجمعنا صداقة تعود إلى زمن بعيد. وقد ازدادت مؤخراً لقاءاتي بغرباء مع انتقالي ككثيرين للإقامة في العالم الافتراضي، فالتقاط الغرباء عن ناصية "فايسبوك" أسهل من التقاطهم عن ناصية الشارع. 

معظمهم يمر مرور الكرام، إلا أن البعض، ولسبب أجهله، ينجح في حملي على إجراء حوار جديّ أستثمر فيه طاقةً وجهداً ووقتاً وانفعالاً حتى عندما أكون واثقة أنه سيكون حواراً يتيماً عابراً، وذلك لأن لقاءً يتيماً عابراً استطاع ذات يومٍ أن يمس روحي، وما زالت ذكراه تمسّها، وما زلت أتساءل عمّا جرى لتلك الصبيّة التي أقلتني وأنزلتني، وقد ازداد وزني بعدما حمّلتني جزءاً من قلبها. ما زلت أتساءل إن كانت تذكر، مثلي، ذاك اللقاء، وإن كانت لا تزال على عادتها التي أورثتني إياها، تقل الغرباء عن الطريق وتريهم قلبها كما لو كانوا أقرب من أقرب الناس إليها.    
©جميع الحقوق محفوظة لموقع المدن 2024